العدد 4482 - الأحد 14 ديسمبر 2014م الموافق 21 صفر 1436هـ

تقرير التعذيب في أميركا وتمثيل لا «تمثيل» فيه

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

الدول الشجاعة، هي التي تمنح قوانينها وإجراءاتها الحق للمؤسسات التشريعية، ومؤسسات المجتمع المدني، وممثلي الأمة، في فضح أي تجاوز ترتكبه سلطاتها التنفيذية. على النقيض منها دول تمتلئ بجمعيات «الغونغو»، ويراد للعالم أن يصدّق بأنها مؤسسات تمثيل حقيقي للمجتمع المدني، تعمل جاهدة وحتى النفَس الأخير من أجل الدفاع عن الدول التي ترعاها؛ ولو ذهبت بعيداً في التجاوزات والانتهاكات، وتوبّخ سلطتها التنفيذية في حال لم تبادر في ممارسة سلطاتها بقمع الجهات التي ترى أنها تحترف تشويه السمعة، وتفتري على الله ورسوله بافترائها على الدولة وأجهزتها التنفيذية.

في الدول الشجاعة أيضاً، قدرة على وضع الضوابط لأجهزتها التنفيذية، مع كل تكشّف لفساد أو تجاوز أو انتهاك للدستور والقيم التي تكرّست، في ممارسة ديمقراطية حقيقية، تخلق أمة حرَّة وطليعية ورائدة. تلك الضوابط هي التي تجعل فرص بروز تلك الأخطاء والانتهاكات والفظاعات والفساد مرة أخرى، أقل.

والأهم في كل ذلك أن تلك الشجاعة تتبدّي وتتجلّى في عدم تزييف الوعي العام، بتزييف الحقائق؛ إذ تنبري المؤسسات الإعلامية، قبل الكشف الرسمي عن التجاوزات، بوضع العالم في الصورة أمام حقيقة ما يدور في مجتمعاتها، ولن تجد الدولة في المقام الأول تتهم تلك المؤسسات بالانتماء إلى جهات خارجية، وتعمل لأجندات تتبع تلك الجهات، وكَيْل النعوت لها بالخيانة والكذب والافتراء ومحاولة تشويه صورة البلاد والعباد!

وفوق هذا وذاك، لن تجد الدولة في المقابل، تضخ الأموال لأجهزة إعلام تقوم وتنشط على «القبض»، لصناعة حقائق مضادة ومزيَّفة في الدفاع عن الدولة التي قبضت منها، وإن حدث ذلك، لا مكان لتلك الأجهزة الإعلامية في الوعي العام، إذا ما خبُر حقيقتها وعرِف ممارساتها.

مثل تلك الشجاعة، تتطلّب أخلاقاً في الممارسة، وتتطلّب الاعتراف بوزن الأمة والشارع ووعيه، وتتطلّب اقتناعاً بأن الدولة في نهاية المطاف ما هي إلا منظم لشئون الناس والعلاقات فيما بينهم وبين الدولة، وما هي إلا حارس على تفعيل ما أقرّته الأمة من دستور فيه يتحدَّد مستقبلها، ولا تذهب إلى المجهول؛ سواءً عبر التصويت، أو عبر ممثلين لها.

ذلك الإدراك والإيمان بمركزية الأمة، يحيلنا أيضاً إلى شجاعة مُلزِمة؛ بمعنى إذا كانت منقوصةً أو متذبذبةً، ستقول الأمة كلمتها في الأدوار الانتخابية المقبلة، وسيقول ممثلوها كلمتهم تحت قبة المجالس المنتخبة، وبالتالي هي شجاعةٌ لها امتداداتها الطبيعية في الأمة صاحبة الخيَار، وصاحبة الحق في تحديد من الذي يمثّلها في دور الحراسة والتنظيم (الدولة).

ما مناسبة هذا الكلام، الذي يبدو هذياناً بالنسبة إلى مجموعة وجزء من العالم، وكلاماً في الصميم بالنسبة إلى مجموعة أخرى؟

الخبر الذي تناقلته وكالات الأنباء العالمية، انطلاقاً من الداخل الأميركي، بعد نشر تقرير وضعته لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي، أثار استنكار الجمهوريين (الذين يمثلون الصقور) والذين حذّروا من ردود فعل عنيفة عبر العالم.

التقرير جاء بعد تحقيق استمر لأكثر من ثلاث سنوات في الفترة ما بين 2009 و2012، وألقى الضوء على البرنامج الذي وضعته وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي أيه)، لاستجواب معتقلين يشتبه بارتباطهم بتنظيم «القاعدة»، للفترة ما بين 2001 و2009؛ بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، باستخدام تقنيات مشدّدة مثل الإيهام بالغرق والحرمان من النوم، وأساليب أخرى من التعذيب النفسي والجسدي.

وعلى رغم أن نشر التقرير أحدث حالاً من الإرباك، ووضع القوات الأميركية في حال تأهب قصوى، مع اقتراب موعد نشر النسخة المقتضبة للتقرير، بكل ما لذلك من تبعات وكُلف، تحسباً لردّ فعل انتقامي من قبل التنظيمات الإرهابية «العامرة» بها أوطاننا، إلا أن عضواً من مجلس الشيوخ لم يتم تهديده بالملاحقة، ولم يتم تخوينه، ولم يتم اتهامه بالارتباط بجهات خارجية، ولم نرَ حملات تلفزيونية أو صحافية مضادة للذين وضعوا التقرير، تشويهاً لسمعتهم، ووضع «دوائر حمراء» على صورهم، أو تصدّي ناشطين لاختراق حساباتهم على شبكات التواصل الاجتماعي!

هنالك وعي أمة لا يمكن التلاعب به، أو التهاون فيه، ولذلك الوعي أثر وقوة يمكنهما قلب الطاولة على الذين يتلاعبون أو يستهينون بذلك الوعي، وهنالك سلْطة تستمد قوتها وشرعيتها من التأثير والخيار الذي تملكه الأمة، ولم يكن تصريح المتحدث باسم الرئيس الأميركي باراك أوباما، جوش إرنست، «تمثيلاً»، أو محاولة تخديرٍ للأمة إلى أن تمرَّ العاصفة، حين قال: «الرئيس يعتقد أنه من المهم أن يُنشرَ (التقرير) حتى يفهم الناس في الولايات المتحدة وعبر العالم ما حصل بالضبط».

في المحصلة: «التمثيل النيابي» و«الرئاسي» لا «تمثيل» فيه، بالمعنى الدرامي والترفيهي الذي نعرفه على الشاشات أو المسرح!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4482 - الأحد 14 ديسمبر 2014م الموافق 21 صفر 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 7:34 ص

      عندهم وعندنا فرق (قل الحق ولو كان عليك)

      تقرير للجنة بسيوني تم الاعتراف بأن في البحرين يوجد تعذيب ، ولكن بعض النواب السابقين يقول فليذهب تقرير للجنة بسيوني الى الجحيم .

اقرأ ايضاً