العدد 4485 - الأربعاء 17 ديسمبر 2014م الموافق 24 صفر 1436هـ

بين الكاتب الشبح و«الشهداء الأشباح»

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

قبل أيام نقلتُ ما يشبه «الفضيحة» التي تداولتها الصحف البريطانية، وخصوصاً صحيفة «التلغراف»، في تقرير كتبته غابي وود، بتاريخ 9 ديسمبر/ كانون الأول 2014، وما سبق ذلك في تقرير ديزي وايت في صحيفة «الإندبندنت» البريطانية بتاريخ 2 ديسمبر الجاري؛ والمتعلق برواية Girl Online، للمدونة وصاحبة قناتين في «يوتيوب»، زوي سوغ؛ وتعرف أيضاً بـ «زويلا»، وتداولت «التلغراف» وغيرها من الصحف مصطلح «الكاتب الشبح»؛ ويطلق على الشخص المجهول الذي يقوم بالكتابة والتأليف باسم شخص آخر مقابل مبلغ نقدي.

الرواية كما أشارت وسائل الإعلام البريطانية، وأخرى أوروبية وحتى أميركية، إلى أنها سجلت أرقاماً قياسية من حيث المبيعات في الأسبوع الأول من طرحها، بلغت أكثر من 78 ألف نسخة، تخطت المئة ألف نسخة بعد مرور 10 أيام من طرحها، لتبدأ ملامح الكاتب الشبح تبرز وتتضح، بمقارنات أولية في أسلوب ولغة زوي على مدونتها وأسلوب ولغة وتقنيات السرد في روايات سيوبهان كورهام؛ والذي يعتقد كثيرون بأنه «الكاتب الشبح» الذي يقف وراء الرواية؛ بل هو كذلك؛ وخصوصاً بعد اعتراف زوي بأنها من ابتكرت شخصيات الرواية؛ وإن لم تباشر كتابتها؛ والعلاقة الخاصة التي تربط الاثنين؛ علاوة على عدم نفي كورهام لمسألة كتابته الرواية.

ثمة علاقة يمكن تلمّسها في المقاربة هنا بين «الكاتب الشبح» و«الشهداء الأشباح»؛ وأولئك يتم اصطناعهم، وإقحامهم إقحاماً على معاني الشرف والعزة وطهارة النفس والروح والبذل الذي لا حدود مرئية له، والذهاب حتى الحدود القصوى لإعلاء شأن أمة وجماعة تحيا في الأدنى من كل ذلك - ولو ظاهراً - بمحاولة إذلالها والنيل من كرامتها. مثل ذلك الإقحام لا تتجرأ على اصطناعه إلا الأمة والجماعات التي لا حظ لها من كل تلك القيم الخالدة. وفي ذلك مأزق وجودي وقيمي يتبين ويتضح في صور ومضامين تعاطيها مع الحياة أساساً في حال من عدم الاستواء وليّ الحقائق والزيف الذي يطول كل مناحي الحياة بممارسات لا تعلي للإنسان قيمة في ممارسات امتهانه وإذلاله ومشاهد إخضاعه؛ عدا منهجة احتواء الحياة والاستيلاء عليها وإدخالها في التركات الخاصة؛ بما في ذلك التوصيفات التي تطلق مجاناً!

و«الشهداء الأشباح» يذكروننا تماماً بخمسين ألف جندي طائر أو شبح تم كشفهم في العراق؛ يتقاضون رواتبهم مع نسبة تدفع للضباط والمسئولين وهم لا يباشرون أعمالهم ومهماتهم؛ لا في الجبهات ولا في المعسكرات؛ في واحدةٍ من آلاف صور الفساد العميق الذي وسم ما يعرف بالدولة العراقية بعد سقوط النظام الدكتاتوري فيها؛ وكذبة جلاء المحتل الأميركي في العام 2011.

مثل أولئك «الشهداء» أيضاً يقدمون صورة من صور الفساد في كل شيء وليس الأخلاق وحدها؛ والسبب أن الأخلاق في عدم؛ ولن يتضح بعدها إلا المزيد من العدم!

و«الشهداء الأشباح» لا يحضرون بتلك الاستماتة والاندفاع والقوة إلا في حال من البؤس والعزلة ومحاولة تنشيط ما يُظَنُّ أنه المتبقي من قيمة؛ ولا قيمة البتة؛ في ظل خواء واستجلاب؛ في محاولة لترميم العدم؛ ونفخ الروح فيه، وهل في عدمٍ روح؟ وهل ثمة موهبة في العالم تملك ترميم العدم؟

ومثل أولئك «الشهداء» لا يمعنون في الحضور إلا في المآزق والكوارث؛ وانحدار القيمة والممارسة؛ والبحث عن صور إنقاذ لكل منهما (القيمة والممارسة) ولو كانت من خلال صور أشباح والبحث عمّن تم توكيلهم بالأدوار ليكونوا في الخطوط الأمامية؛ فيما هم في ما بعد الخلْف من تلك الخطوط. كأنه المعنى الذي ذهب إليه المفكر والعالم السوسيولوجي، علي شريعتي، في حديثه عن الحروب التي هي «عبارة عن: اشتباك بين فريقين لا يعرف أحدهما الآخر»، والمحصلة في مثْل بعض تلك الحروب، توليد واختراع «شهداء» من تلك النوعية في كثير من الأحيان!

صاحب المال الذي يحتاج إلى «كاتب شبح» يُعلي من شأنه قبل إعلاء مكانته بالمال الذي يملك؛ يضعنا أمام مقاربة حقيقية لأمم... شعوب... جماعات، تملك المال وتحتاج إلى «شهداء» يسترون على الفظيع واللاأخلاقي من ممارساتها أيضاً!

وكما يتلقى «الكاتب الشبح» المجهول طبعاً، أموالاً ليضع نص رواية أو قصة أو نصاً شعرياً؛ يتلقى مثل أولئك «الشهداء الأشباح» والمجهولين على المكان وزمانه طبعاً؛ أموالاً أيضاً ليقوموا بالأدوار بالإنابة!

ثم إن الأمة التي تحتاج إلى شهداء، لديها مشكلة؛ والأمة التي تزوِّر الطريقة والمسمَّى في موت أفراد ينتسبون لها قسْراً أو ترغيباً؛ لديها أكثر من مشكلة. والأمة التي تستورد «شهداء» لديها مشكلة مضاعفة؛ وأمة لا شهداء فيها لديها مشكلات لا آخر لها!

وحين نقول: تحتاج شهداء؛ فلأن الحياة من طبيعتها تحتاج إلى التصحيح وإعادة التصحيح؛ ولأن الحياة ليست مثالية ويصبح الموت في كثير من الأحيان، أحد الطرق التي تسهم في شكل أو آخر في إعادة الاعتبار إلى الحياة وبشرها وتفاصيلها؛ ولكن بشهداء حقيقيين من واقع احتياجات وظروف ومنعطفات الحياة في المكان وبشر تلك الحياة؛ لا بأدوار يقوم بها الطارئون.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4485 - الأربعاء 17 ديسمبر 2014م الموافق 24 صفر 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً