العدد 4495 - السبت 27 ديسمبر 2014م الموافق 05 ربيع الاول 1436هـ

سحرُ الحياة في الحرية والإبداع

سهيلة آل صفر suhyla.alsafar [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

ماذا تفعل لو أنك صحوت من نومك واكتشفت فجأة أنك تعيش في المكان والزمان الخطأ، وكأنك انتقلت بمركبة فضائية (time machine) إلى عصرٍ تكنولوجي مُتقدم، وأنك غريبٌ في الديار، وانتقلت من عالمِ بسيط وجميل إلى آخرٍ جافٍ ومُخيف، ترى الشوارع الواسعة والسيارات والمولات ووسائل التواصل الحديثة من التليفونات النقالة تخطف الإنسان من نفسه وتجعله هائماً مع الآلة الباردة يحتضنها ليلاً علها تعوضه حرمان زمانه والحميمية، وليجد نفسه كلما اقترب من ذلك الجهاز ازداد بُعداً ووحدةً عن نفسه.

ووجد أنه لازال يعيش مع عائلته، لكن الظروف والمشاعر تجمدت، وحتى زوجته وأبناؤه أصبحوا كالغرباء وبعيدين لاندماجهم بالعصر، ورأى نفسه يعيش حرباً باردة ما بين الصمت المخيف وبرودة الأحاسيس ما بين جدران المنزل، وقد تغلبت الأنانية على كل تصرفاتهم ويتم تواصلهم عن طريق رسائل نصية أو يديوية ولا يراهم إلا من خلال الشاشات.

وأما الطعام فيُطبخ في بيوتٍ خاصة ويُرسل عبر قنواتٍ صُنعت خصيصاً لتلك المهمة، مثل الكهرباء والماء وينظف البيت نفسه بنفسه والغسيل يتم بالروبوت الآلي، فلا مطبخ ولا وجبات منزلية ولا خادمة، لأن الزوجة تعمل خارج المنزل.

أما التزاوج ونظام العائلة، فقد أصبح عبر القنوات الخاصة، حيث يُحدد عدد الأبناء والبنات بحسب المراكز القيادية للأفراد وقدراتهم ومجهودهم في الأداء، وتُعطى تلك المناصب لهم كما يحدد عدد الأبناء طردياً مع المستوي المهني والوظيفي للأفراد، أما ذوو المهن المتدنية فتُحدد الشروط لهم وقد لا يملكون حق الإنجاب، لا بشروطٍ، وإذا ما علا طموحهم وازداد إنتاجهم أو اختراعاتهم، حيث يقاس مستوى الفرد بمدى طموحه، ولا يوجد فقير أو فقرٌ في المدينة، حيث توزع البيوت اللائقة مجاناً للجميع بكل كمالياتها للعيش الكريم وحقوقهم بمجانية التعليم والعلاج، والسفر للترفيه للمواطنين مرتين في العام على حساب الدولة للإقلال من الأمراض النفسية، والتي تُعطل الإنتاج وبذا توفر الدولة الكثير من النفقات العلاجية.

كما يُمنع تجنس الغرباء من العاملين وتُحدد إقامتهم بأربع سنوات فقط، ولا تُجدد لإعطاء الفرصة لآخرين ولعدم التعلق بالمكان للتجنيس، فمساحة البلاد ومواردها لا تسمح لذلك، أما الأبناء فتحتفظ بهم الدولة بعد ولادتهم في حَضَاناتٍ خاصة مُجهزة جيداً لتربيهم وتنشئهم بطرقٍ مُعينة لتحديد سلوكهم للولاء للدولة، ويزورون أهاليهم في العطلات فقط، ولا مكان للعواطف والحب العائلي، ويعطون أرقاماً عوضاً عن الأسماء ويُمنع تدخل الآباء في شئون أبنائهم الا عن طريق الدولة ولأشياءٍ مُحددة ومكتوبة في عقودٍ وصكوك واضحة، بين الطرفين ولا يمكن تجاوز أوامرها وبذا يصبحون الأداة الطيعة لما تُريده.

ولكل فردٍ رقمٌ بنكي واحد فقط تراقبه الدولة بدقة ولا يمكنه الثراء، وهي توفر له كل احتياجاته وقد يُسحب جواز سفره ويطرد من البلاد إذا ما خالف الأوامر والقوانين، وسيبقى عالقاً، ويتمنى موته إن خالفها، لأنه مربوطٌ بالدولة بكل ذرة من كيانه وجسده وعائلته.

ولكنه تساءل فجأة ما الذي أتى بي إلى هذا الزمان، وهذا المكان التعيس؟ وكيف لي الخلاص من هذه الورطة والمأزق الحياتي في زماني؟ وبدأ البحث عن طريقةٍ للهروب والرجوع إلى العيش في زمانه الجميل، والذي كان سعيداً جداً بأرض أجداده، بوسائلها وإمكاناتها المتواضعة، وكيف اشتاق لطرقاتها الضيقة والبيوت الصغيرة المتجاورة والجيران الطيبين والتكاتف الإنساني الحميم، وكيف تجدهم حولك في الأزمات قبل الأفراح بالحب والحنان وبجرعاتٍ خيالية تريح القلب وتُسعد الفؤاد. ذلك الزمان وهدوء الحياة والأعصاب وتكاتف العائلات ولمة الأحباب في الغداء حول سُفرة الطعام البسيط، وذلك السمك اللذيذ الطازج، والذي خرج تواً من البحر، ومع الباجلة والنخي والجبن والخبز الحار ليلاً، والذهاب إلى البحر قبل إن يُردم وتختفي آثاره، ذلك البحر الذي كان مجاوراً للبيت ونصيد منه الأسماك ونسبح فيه صيفاً وننام على سطوح منازلنا، كأروع رحلة ليلية أيام القيظ الحار نعد نجوم تلك السماء الصافية، وكانت تسليتنا عوضاً عن التلفزيون والتليفون أو التسكع في السيارات والشوارع الكاشخة الكاسحة مع وحدتها القاتلة، كانت حياتنا هنيئة مع ليالينا الدافئة، راضين تماماً عما نحن فيه، لأننا لم نعرف بديلاً لها (what u dont know u dont miss) ولم ينقصنا أي شيء، لأستيقظ فجأة وأنا ألهث من الحُلم والكابوس المرعب الذي نقلني إلى عالَمٍ مخيف وحضارةٍ جافة دون قلب، وذهبت فوراً لأتحسس أطفالي ووجدتهم نائمين في فراشهم وزوجتي في المطبخ تُعد فطورنا مع الخادمة.

وحمدت الله أنني مازلت هنا في هذا الزمان والمكان، على رغم كل مشاكلنا وحرائقنا وخناقاتنا وتفرقتنا ومعاناتنا اليومية واعتراضنا على التليفونات والتلفزيونات التي سرقت البشر من بعضهم بعضاً، وأنه مازال البشر وعالمنا بخير ومازالت الحرية قائمة حتى ولو انتُهكت أحياناً، ومازالوا يتواصلون في مطالبهم ويمتلكون زمام أمورهم الخاصة يثورون ويسهرون ويسافرون ويتزوجون، يحبون وينجبون كما يحلو لهم، وأننا مازلنا نأمل بأن نطور حرياتنا، وكل ما نطلبه من الله في دُعاءٍ ألا يأتينا أبداً ذلك اليوم الذي يستحيل فيه مناجاة أهلنا إلا من وراء الشاشات، وأن لا نُحرم من حرياتنا التي تعودنا عليها، وأن لا نكون رقماً من الأرقام وفي زمانٍ أغبر لا يُطاق.

إقرأ أيضا لـ "سهيلة آل صفر"

العدد 4495 - السبت 27 ديسمبر 2014م الموافق 05 ربيع الاول 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 7:30 ص

      كلام خيالي مميز

      كلام جميل وخيال ابداعي مقارنة الواقع مع ماقد يتم في المستقبل لاحتلال عقل وجسد الانسان والموضوع يصلح لقصة قصيرة ومفهوم مميز للحياة شكراًعلى المجهود لاغناء الجريدة والقراء

اقرأ ايضاً