العدد 4496 - الأحد 28 ديسمبر 2014م الموافق 06 ربيع الاول 1436هـ

النثر أكثر وفاء لهمِّ الشاعر لا وهمَه!

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

كمن لديه فضاء مفتوح؛ لكن أدواته للوصول إلى ذلك الفضاء تتباين. بين الأجنحة، والطائرة بمقعدين؛ وأخرى تتسع لملعب كرة قدم؛ وأحياناً بمساحة حاملة طائرات. الأداة هي التي تتيح لك اكتشاف الفضاء وامتداده. يظل الانحياز إلى الأجنحة هو المحبّب إلى الشاعر. الأجنحة ابنة الفضاء إن صح التعبير. ابنته من حيث قدرتها على التحايل على الرقابة، وتجاوز الحدود المصطنعة.

مع القوانين التي وُضِعت للشعر؛ وبالمناسبة الأذن العربية بطبيعة الفضاء المفتوح؛ والعزلة أيضاً؛ هي أسَّستْ ما يشبه «العُرْف» الذي أصبح قانوناً غير مُنظَّر ومقعَّد له، قبل أن يضع الفراهيدي بحور الشعر وأوزانه انطلاقاً من بئر رصدَ رجْعَ الصوت عندها. أقول مع «العُرْف» أولاً، و«القوانين» ثانياً؛ صارت طاقة الشاعر الخلاقة محكومة وخاضعة لهما، ويقبض الشاعر بالخضوع إليهما - بحسب الترتيب - على معشار ما يريد قوله.

في النثر سيجد كل الوفاء له. لم يكتب كثير من الشعراء في عهدهم المزدهر الأول، نثراً حاضراً بقوَّة ما نشهد اليوم؛ ذلك أنهم ظلوا أوفياء لتلك القوانين/ القيود التي منحتهم الوجاهة، وتصدّر المشهد، والوصول إلى مناطق السطوة والتأثير وبمعنى مباشر؛ حيث مراكز وأوساط الحُكْم. في قوانين النص والكتابة عبودية من نوع آخر!

الشعر كان هو الواجهة الإعلامية. لم يكن النثر يحظى بمعشار تلك السطوة. كان في كثير مما يحقق محتفظاً بالمرتبة الثانية. في حدود عزلة تتقصى وتقتفي الأثر. في محصلة ما: لم يكن النثر وفياً للشاعر بالأمس؛ لأنه لا حضور ولا سطوة له وقتها. لا أفق للهو يتيحه النثر في زمنه الغابر.

اليوم، صار من البديهي أن يكون النثر وفياً للشاعر؛ بتولّد أشكال إبداعية بعضها مكتسب؛ إن لم يكن جلّها، منحَ اللغة العربية استكشاف مساحة لم يكن للشعر أن يدنو منها؛ وإن فعل ففي الدرجات الدنيا من الاقتراب والمتاخمة.

ويظل النثر أكثر وفاء للشاعر، بالخيال الذي يتوافر في فضاء الشعر؛ ما يمنح صاحبه قدرة على الدخول في مبادرات من التجريب؛ ومقاربة أشكال إبداعية لا تتاح إلا للذين أوتوا حظاً من الخروج على مانفيستو نهايات الأشكال الإبداعية.

النثر أكثر وفاءً للشاعر، أولاً بقدرته على استدراجه إلى فضاء أرحب وأوسع. من قال إن الشعر أرحبُ وأكثر امتداداً من النثر؟ وخصوصاً مع تعدد الأزمات، وتعمّق المشكلات، وتمدّدها؟

من قال إن الشعر يقدّم حلولاً، ويكشف عواراً ويفضح تجاوزات بالتفاصيل التي لابد منها؟ من قال إن الشعر يمكنه أن يتاخم مساحات بالتوثيق والصوت والصورة في ما يحدث من ملهاة مفتوحة على أكثر من كارثة وانحطاط أيضاً؟

من قال إن الشعر يدّعي القدرة على تخليصنا من هذا الفائض من اليأس؟ له حصته من كل ذلك، ولكنه لن يدّعي القدرة على احتكار الحصص كلها.

تحميل الشعر كل تلك الأدوار، ومحاولة أن يكون المدفع وراجمة الصواريخ، وإعلان ساعة الصفر وقراءة البيان الأول في التغيير - لا بيان الاستعراض والكذب والدجل والشتائم والاستقواء - هو الورطة بالسذاجة في أردأ صورها ومحصّلاتها.

وفاء النثر للشاعر مرتبط بمقتضيات وضرورات هذا العصر الذي يعاني من التضليل والتزييف والتحريف والدفع من تحت وفوق الطاولة للانعطاف بالصورة، وتكريس الصورة التي يريد، والرسالة التي يريد تعميمها. نثر ترصد له موازنات وكوادر كي يصدع بالإفك، ويربك الوعي ويخربه.

والشعر النقي؛ ذلك الذي يصدر عن روح ونفس نازفة. نازفة بالموقف والمبدأ لا يحتاج إلى الخضوع لبحور وأوزان؛ لأنه ببساطة يزن حركة العالم بشرف الموقف، ودفع الضريبة في نهاية المطاف. ولا يحتاج إلى بحور تقيّم فرادة أو رداءة الانضباط لأن ما يتم تسجيله اليوم من مواقف مكلفة وفادحة في نهاية الأمر سيغرق في خضمّها الذين يصرّون على عدم حاجتهم لاستيعاب السطح من الكوارث والمشكلات؛ عدا العمق واللجي من ذلك البحر الموّار!

وعلينا أن نقرَّ: أجمل النثر اليوم؛ ذلك الذي كتبه شعراء. وأبهى الأعمال الروائية اليوم تلك التي كتبها شعراء؛ أو كان الشعر فيها حاضراً بقوة؛ لأنه بالفضاء المفتوح الذي يتحرك فيه الشعر؛ يمكن للبسيط منه أن يحتوي أشكالاً وألواناً إبداعية لن يكون الفضاء الذي تتحرك فيه من السنخ نفسه والامتداد!

أجمل النثر أيضاً وأوفاه للشاعر خصوصاً ومن هم من طينة همّه، ذلك الذي لا يناور ولا يداهن ولا يستجدي ولا ينبطح ولا «ينشكح» تبعاً لمناخ ومجسّات الأجور والدفع اليومي والأسبوعي والشهري وحتى الفصلي!

في البسيط من الكلام: النثر أكثر وفاء لهمِّ الشاعر لا وهمَه!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4496 - الأحد 28 ديسمبر 2014م الموافق 06 ربيع الاول 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 5:18 ص

      في الهم و الوهم !

      كتب صاحب المقال " النثر أكثر وفاء لهمِّ الشاعر لا وهمَه " ففي الهم و الوهم جناس جميل في هذا الموضع من خاتمة المقال إيجازا لما ورد طيَّه ، لكن أرى في الجمع بينهما نشازا في الدلالة ،إذ يقصد الكاتب بالوهم الخيالَ ! و هو ربط و رأي غير حكيم ، فكيف يُرى الخيال وهماً في مستوى الإبداع؟! و بأي عين ؟! معنى الوهم و الخيال معجما مرتبطان غالبا بالظن و الخطأ ،لكن الوهم في السياق يرتبط بما التبس و بمعاني سلبية ، فيما الخيال أشد ارتباطا بالأعمال الفنية و الإبداعية .

    • زائر 3 | 4:56 ص

      سؤال وحيد

      لما جاءت كلمة " وهمَه " منصوبةً ؟ ؟؟؟؟ ....

    • زائر 1 | 12:16 ص

      جميل

      "في قوانين النص والكتابة عبودية من نوع آخر!"

اقرأ ايضاً