العدد 4503 - الأحد 04 يناير 2015م الموافق 13 ربيع الاول 1436هـ

الحياةُ ليست سيركاً أيها المتفرِّجون!

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

الإنسان هو الذي يملك القدرة على صنع زمنه، والطبيعة التي يريد لها أن تكون سِمَةَ ذلك الزمن. والزمن يصنع صاحبه أيضاً، باللحظات القلقة والحادّة والمفصلية التي يمر بها، وبحسب قدرته على مواجهتها أو التكيُّف معها، تصهره، وتعيد تشكليه على المستوى النفسي والروحي؛ فإما إلى اضمحلال وتهاوٍ يصير، وإما أن يكون أكثر ثباتاً ورسوخاً وقدرةً على أن يأتي بالمُبْهر والمُعجز، وتلك هي طاقة وقدرات الإنسان فيما نعرف ونعي.

تتصرَّم الأعوام، فإما أن تكون عصارتها في الأثر والنتيجة التي تركتها تلك السنوات على خبراته ومعارفه وتجاربه وعلاقاته؛ وإما أن يكون «كُمَّاً مهملاً»، تعبره الأعوام، ولا يستلّ منها حتى القليل من الأثر الذي يمكن أن يتركه، ولا يخرج منها بالنتيجة التي تحدّد له موقعاً بين الذين جاءوا إلى هذا العالم كي يراكموا الإضافات فيه، أما عن الخبرات التي يمكن أن يتحصّل عليها، فلن تتجاوز كونه أحد سكّان هذا الكوكب، ورقماً ضمن سلسلة لا تنتهي من الأرقام، وفي كثير من الأحيان يكون الصفر فيها على شمال أي رقم!

مع تصرَّم السنوات يتطلع بعض البشر والأمم، إلى أن تأتي السنوات التي تلي بما يريدون ويشتهون ويتمنّون. كأن إيقاع الحياة يديره مايسترو الاشتهاء والتمنّي، بهكذا سذاجة وتعاطٍ مع الحياة.

الحياة ليست سهلةً وطيّعةً كما نتصورها. الحياة شرسة في عراء الإنسان وعجزه وانعدام الأدوات لديه لمواجهة تلك الشراسة. الحياة تحتاج إلى ترويض يبدأ من الداخل أولاً. أن تحدّد ما تريده في هذه الحياة، وأن تمتلك الخطط والتصور والأدوات أيضاً لبلوغ ما تريد، وتحقيق الأهداف التي إليها تتطلَّع. لا يكفي أن تريد، ولا يكفي أن تمتلك أكواماً من الخطط والتصورات، فيما أنت منكفئ على نفسك، وتظل مؤمناً حتى النَفَس الأخير بأن زمن المعجزات لم يُوَلِّ، وأنك الجدير بأن تستأنف تلك المعجزات حركتها ودورها من خلالك!

المعجزة لاشك مبهرة وتذهل من يعاينها؛ لكنها تظل في نهاية المطاف لإلقاء الحجّة وإخراج الإنسان من تزمّته وغروره وصلفه وعناده؛ وليست «سيركاً» تُؤدَى فيه حركات بهلوانية لتحقيق المتعة والتسلية!

تظل السنوات فتيةً بفتوَّة الإنسان. تظل هرمة وآيلة للسقوط بشيخوخة روحه وذهابه إلى السقوط باختياره؛ إما بتشويهها، والعبث بتفاصيلها، وتحويلها إلى مختبر للجحيم؛ وإما اكتفاء منه بالوجود على الهامش، والتمسُّك بالتفرُّج مبدأ وأسلوباً في ما يشبه الحياة!

ومع تصرُّم السنوات أيضاً؛ ينتظر الإنسان من السنوات التي تلي أن تضع حدّاً للحروب التي أشعلها، والمجاعات التي كان هو سببها، والحدود والخرائط التي عبث بها، والفتن التي أيقظها، والعنصرية التي مارسها، والتمييز الذي رفع لواءه، والأوبئة والأمراض التي لم تأتِ من فراغ، والتلوُّث الذي تسبَّب في نفاياته والنتائج التي تتمخَّض عنه، والفقر الذي تتسع هوَّته، والظلم الذي يكاد يتحوّل إلى مدخل رئيسي للتعرُّف على ما يجري على هذا الكوكب.

كأن السنوات هي التي تدير شئون الإنسان. كأن الزمن عاقل بحيث يستطيع توجيه الحروب والمجاعات، واللعب بالحدود والخرائط، والنفخ في الفتن، وتحويل العنصرية إلى عرْف قائم، والتمييز إلى واحدة من الفضائل، والأوبئة التي تختفي لتأتي بدمار أكبر وأشمل، وتحدّد أفق ومساحات التلوّث، والزمن نفسه هو السبب في الفقر الذي يتمدَّد بأكثر من ذراع كأخطبوط، وكأن الإنسان برئ كل البراءة من ذلك، ولا ناقة له ولا جمل في كل ما يحدث!

وبئس الحياة مع إنسانٍ وأمَّةٍ لا تعلي قدْراً لمن يستحق، ولا تحط قدْر العالة على الحياة؛ وليس أهلاً لها. وبئس الحياة التي تبدأها أمَّة وقد استقرَّت وآتتْ أُكُلها، وتغادرها وقد ماجتْ واضطربت وأصبحت دار بوار.

والذين جاءوا إلى هذه الحياة وينتظرون في المقبل من سنواتهم أن تتعامل معهم باعتبارهم متفرّجين في سيرك عملاق، لن يخرجوا منها إلا بالمتعة المؤقتة والعابرة التي لا تصنع فارقاً يُذكر. لن تصنع لهم إلا استيطان النسيان، والسقوط من ذاكرة الأمكنة والبشر الذين عرفوا، والذين لم يعرفوا!

بقليل من الكلام: الحياة ليست سيركاً اليوم؛ ولن تكون كذلك غداً أيها المتفرِّجون! وكل عام وأنتم صنّاع الحياة، والأدلاء على المضيء والمبهر والفارق فيها.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4503 - الأحد 04 يناير 2015م الموافق 13 ربيع الاول 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً