العدد 4505 - الثلثاء 06 يناير 2015م الموافق 15 ربيع الاول 1436هـ

«الهوية» بصفتها انتماءً وتعدّداً

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

إن طبيعة الحروب والصراعات والمعضلات السياسية والثقافية التي تميز الحقبة التاريخية المعاصرة، وما يرتكب فيها من جرائم قتل وإبادة باسم الهويات الدينية أو الإثنية أو القومية، وما ينتج عنها من متغيرات ديمغرافية تتم بأدوات التجنيس السياسي في بلدٍ ما أو عمليات «الترانسفير» من تلك الأرض وتفريغها من أهلها، تجعل من مصطلح «الهوية» مفهوماً حاضراً للتداول باستمرار. بل إن البحث فيه صار أمراً ضرورياً وملحاً للانثربولوجيين والسوسيولوجين والسياسيين المعنيين بالأقليات والجماعات الدينية والإثنية. لم لا وباسم «الهوية» ترتكب المذابح وعمليات التطهير وتشرد الشعوب من أوطانها، وتنفذ سياسات الاستبداد والقمع والترهيب والتمييز العرقي والطائفي والمذهبي ونهب ثروات الشعوب.

تناول الباحثون بالدراسة والتحليل مفهوم «الهوية»، والكثير منهم مروا بتجارب احترابية مريرة في مجتمعاتهم، واستند بعضهم في تحليله إلى النظريات العلمية، وآخرون عادوا أدراجهم إلى منابع إيدلوجياتهم الدينية أو القومية كي يُعرفوا مفهوم «الهوية» ويقاربوه بواقع الصراع والتحولات الذي تمر بها مجتمعاتهم. والنتيجة أن أغلبهم اتفق على أن هذا المفهوم غامض وبه التباس، بل وانتقد بعضهم، كألبرتو ميلوسي، في بحث له بعنوان «صيرورة الهوية الجماعية»، استعماله داخل حقل العلوم الإنسانية. وأشار آخرون كروجرز بروبكر وفريدريك كوبر، إلى أنه مفهوم غير ضروري للعلم، حيث اختزلا دلالات استعماله في دراسة لهما بعنوان «ما وراء الهوية» في خمسة استعمالات فقط، تتمثل من كون الهوية «مرجعية ناظمة للفعل الاجتماعي والسياسي»، وبصفتها «ظاهرة جمعية» دالة على وجود تشابه بين أعضاء جماعة ما في طرق تصرفهم وملامح وعيهم المشترك، ولكونها «نواة فردية أو جماعية»، و»نتاج الفعل الاجتماعي والسياسي»، حيث ترد في الخطابات السياسية وتستعمل كمحرّض على التضامن والوحدة، وكذا بصفتها نتاجاً لتعدد وتنافس الخطابات. وهذا بحد ذاته يكشف مدى التباس مفهوم «الهوية» وتعقيده وتباين استعمالاته.

حليم بركات مؤلف كتاب «المجتمع العربي المعاصر»، (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2008)، خصّص فصلاً كاملاً للبحث في الهوية العربية، وتساءل: كيف يمكن تصور هويتنا؟ هل نستند إلى مبدأ التشابه أم مبدأ التكامل؟ وأجاب: «بالطبع على عناصر التكامل. لماذا؟ لأن اعتماد مبدأ التشابه في تحقيق الإجماع يعني برأيه فرض الامتثال القسري والهوية ذات البعد الواحد على الآخر المختلف، يعني العداء للتعدّدية بدلاً من الاعتراف بها، يعني النظر إلى الهوية على أنها ثابتة مستمرة وكائنة مسبقاً، بل يعني الانغلاق على تجارب الشعوب الأخرى باسم الأصالة.

ومنه ينطلق بركات في تحديد مفهوم «الهوية» استناداً إلى منهج نقدي تحليلي جدلي، يشدّد على تحليل عناصر التوحّد «كالسمات العامة أو الخصائص التي تميّز الأمة وتعطيها شخصية متفردة عن غيرها، مع الأخذ بالاعتبار تحذير أحد الباحثين من مغبة «البحث عن الوحدة الافتراضية غير الموجودة واقعياً، لأن هذا البحث حسب اعتقاده يخفي وراءه رغبة أكيدة في القضاء على كل أنواع الهويات الأخرى المغايرة عبر وسيلة رفع راية الدين».

ثمة عناصر أخرى في منهج بركات، تتمثل في الثقافة والمصالح الاقتصادية والقيم الأخلاقية والمبادئ التي يتم تناولها في سياق العمل المشترك والتاريخ والمجتمع وليس خارجهما، إلى جانب تقدير مبدأ تعدّد الهويات وقبولها ضمن الهوية العامة المشتركة. وهنا يؤكد على أهمية تجاوز مفهوم «التسامح» بالذهاب للأبعد في تعلّم احترام حقوق الآخر، ومنها حق المغايرة والاختلاف. في هذا الشأن يعرّف أمين معلوف الهوية في كتابه «الهويات القاتلة» (دار ورد، دمشق، 1999): «هويتي هي كل ما يجعلني غير متماثل مع أي شخص آخر».

إذاً «الهوية» بالنسبة لبركات، حالةٌ دائمةٌ من التطور والتكوّن أو التحوّل، وهي كينونة مستمرة شكلاً ومضموناً لجهة علاقتها بذاتها وبالآخر، الأمر الذي يتطلب رسم حدود «دوائر» بين الذات والآخر. وقد تكون الدوائر صغيرة أو كبيرة، ضيقة أو رحبة الأفق، منفتحة على الآخر أو منغلقة على ذاتها، مرنة أو متصلبة، متسامحة أو متعصبة. وهذا يقود إلى السؤال عن ماهية الحدود المراد إقامتها بيننا وبين الآخر، خصوصاً وأن هناك علاقة وثيقة بين مواقع الأفراد والجماعات في البنى الاجتماعية والاقتصادية، وبين اختلافهم في تحديد الهوية، فالجماعات القبلية أو الطائفية الاستبدادية التي تحتل مواقع القوة والجاه والثروة وتهمين على النظام السياسي الحاكم مستفيدةً من علاقاتها مع قوى الخارج المهيمنة، تختلف في فهمها للهوية وممارساتها عن تلك الجماعات المُسَيطَر عليها والتي تشغل مواقع دونية، حيث تكون الأخيرة أكثر تضرّراً من استمرار الأوضاع القائمة أو حتى مع الجماعات التي تقع في الوسط أو بين البين.

إن الولاء للمجتمع أو ذاك الذي تشدد عليه وتطالب به قوى الاستبداد، يستوجب -وفق حليم بركات- الاقتناع بقواعد ومبادئ وقيم توازن بين ضرورات الامتثال ومتطلبات الحرية التي تهدف إلى تجاوز التناقضات. بمعنى، أن فهم الهوية على أنها ولاء للمجتمع أو للسلطة السياسية الحاكمة، يتطلب الارتكاز على الامتثال الطوعي، لا الامتثال القسري؛ وعلى حلّ التناقضات حلاً عادلاً، لا على ترسيخها. وأضيف من عندي، على ولاء ركيزته العدالة والحق، «لا» مبادئ ميثاقٍ على الورق يسوده البطش والظلم والنهب وممارسة الفساد والتمييز المذهبي تجاه من يعارض هذا الواقع. وبالتالي ومجدداً حسب بركات: «... تكون السلطات بما فيها السلطة السياسية المتمثلة بالدولة والحكومة، شرعية بقدر ما تجسّد مصالح المجتمع وأفراده وتطلعاتهم دون تميّيز أو إقصاء للآخر. إن للمجتمع أو الأمة أولوية على الدولة وليس العكس، فالدولة هي التي تستمد سلطتها من المجتمع، الذي يفترض أن يمنحها حق تطبيق القوانين وفرضها على المواطنين أفراداً كانوا أو جماعات... (ص 59). وماذا أيضاً؟

أيضاً في تعددية الانتماء، يشير معلوف إلى أنه «يوجد في كل العصور أناس يعتبرون أن هناك انتماءً واحداً مسيطراً يفوق كل الانتماءات الأخرى في كل الظروف، لدرجة تسمية هذا الانتماء «هوية»، وهو بالنسبة للبعض «الوطن»، ولآخرين «الدين»، وعند البعض «اللغة»، ما يعني أن الانتماء نسبي وليس مطلقاً، وهذا يتفق تماماً مع إشارة بركات، «... بأن الانتماء إلى هوية عبارة عن مزيج غريب من العناصر الموضوعية والذاتية في واقع تاريخي اجتماعي محدّد، فللإنسان والشعب في كافة المجتمعات، كمّ كبير من الانتماءات، وليس هناك من انتماء واحد لا غير، فإضافةً إلى الانتماءات الطبقية في مجتمعاتنا المحلية، هناك انتماءات دينية وطائفية وإقليمية وقطرية وعرقية وقبلية شديدة التنوع وتشابك المصالح، وقد تنسجم هذه الانتماءات المتقاطعة والمتراتبة في علاقات عمودية أو أفقية مع الحس القومي العام أو قد تتعارض معه، وكثيراً ما تشكّل بعض هذه الانتماءات في المجتمع العربي بديلاً للقومية العربية فتقوم بينها خلافات ظاهرة وخفية».

ينهي بركات مناقشته التي تشعبت إلى نقد السلوك الإمبريالي الغربي الذي عمد إلى تعزيز الطائفية والانتماءات التقليدية (وحتى اختراعها في بعض الحالات) في خدمة مصالحها وتعزيز هيمنتها، كما لم يغفل الكشف عن مساهمة القوى النافذة محلياً وتعاونها مع الإمبريالية في اختراع أو إنشاء أوطان ودويلات تفرض عليها أوضاعها وتركيباتها الخاصة الاستمرار في التبعية، تأميناً لحاجات ملحة أو للحصول على الحماية والمساعدات الخارجية، مشيراً إلى خطورة إنشاء «إسرائيل» كقاعدة ونموذج للأوطان الدينية والطائفية، وإلى عدم استغرابه مما أنتجته حرب الخليج الثانية العام 1991 من مقولةٍ تشدّد على «خصوصية الشخصية الخليجية وتميّزها»، حيث اختزلت هذه الخصوصية الاقتصادية بالنفط الذي جعل الخليج أكثر خليجيةً، وخلق ظاهرة أغنياء العرب وفقرائهم، وتحوّل إلى قوة من قوى التجزئة العربية.

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 4505 - الثلثاء 06 يناير 2015م الموافق 15 ربيع الاول 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 11:22 م

      الف شكر منى

      جميل مقالك دكتورة منى و في محله ووقته ونحن في هذا العالم العربي اليوم اكثر حاجة لمناقشات اعمق في مفهوم الهوية لان كثيرون ثاروا وانتفضوا ورفضوا واقعا بني على مفهوم خاطى للهوية الف شكر وكالعادة وضعتي اصبعك على الجرح بل ربما الدمل الذي نحن بحاجة لتنظيفه حتى نقيم وطن حقيقي للجميع

اقرأ ايضاً