العدد 4507 - الخميس 08 يناير 2015م الموافق 17 ربيع الاول 1436هـ

عبدالرحمن النعيمي: في مسألة الهوّية وتوابعها (2)

عبدالحسين شعبان comments [at] alwasatnews.com

كاتب عراقي وحقوقي عربي

كان عبد الرحمن النعيمي يمهلني يوماً بعد آخر في تدوين مذكراته، بل كلّفني لإقناع مظفر النواب بضرورة تدوين سيرته ونشر أعماله الكاملة، حتى حصل المحذور وجئنا إلى البحرين لنرى صديقنا العتيق وهو مُسجى وفي غيبوبة طويلة امتدّت أيامها وشهورها وسنينها بكل ثقلها وكآبتها، والعائلة والرفاق والأصدقاء ينتظرون، حتى داهمه ذلك الذئب اللعين الذي ظلّ يتربّص به متنقّلاً معه مثل ظلّه من بيروت الحلم، إلى دمشق الياسمين، وبغداد الرشيد ودجلة الخير، والخليج ذي اللؤلؤ والمحّار، وظفار الطفولة والعفوية، وعدن التي كانت الجنة الموعودة، والتي رأينا كيف كان حلم ردفان الكبير يتدحرج في التواهي وكريتر ويتبدّد أمامنا.

وإنْ لم أفلح في اصطياد النعيمي يروي لنا ما حدث في ظفار، فقد أكون قد حفّزت واستدرجت رفيق عمره وصديقه الوفي الحميم عبد النبي العكري ورديفه اسمه المستعار «حسين موسى» في كتابة هذا الفصل الغامض من فصول النضال الشيقة. وكلّما ذكرتُ النعيمي لابدّ لي من استذكار العكري، وهو الصديق الذي يتكامل مع النعيمي، مثل صداقة ماركس وإنجلز، ودعوني هنا أمجّد هذه الصداقة النضالية التي حملت القيم والنبل والإخلاص والاعتراف بالأدوار.

عندما قرأت رواية صنع الله ابراهيم «وردة» وهي تروي أحداث ظفار، بلغة بعضها يحمل حبكة درامية هائلة التأثير، وبعضها كان أقرب إلى تقارير صحافية، حاولت أن أوالف بين الفن واللغة والخيال، مصحوباً بتقريرية لدعم الحدث، وسألت النعيمي: أحقاً كان الأمر هكذا، في بلدٍ لم تصله آنذاك متطلبات الحضارة والمدنية؟ لكن ثمة مسألة في غاية الأهمية لفت انتباهي إليها النعيمي، وهي امتزاج الخيال بالواقع، والقاهرة بظفار، والثورة بالمرأة، والأمل بالخيبة. فكيف لبضعة شباب في عمر الورد يجترحون كل تلك العذابات ويتحمّلون كل تلك الصعاب، إنْ لم يكن لهم هدف نبيل؟ وهي تجربةٌ عشتها في مطلع الثمانينيات في جبال وعرة ومناطق نائية وسير على الأقدام دام أياماً وليالي، عرفت فيها فتية بشجاعة نادرة وأحلاماً لا حدود لها.

هوّية وثقافة

كانت ثقافة النعيمي قد اكتسبت مع مرور الأيام طابعاً ديناميكياً متحركاً، غير ستاتيكي، فقد تمكّن الإفلات من المسلّمات السرمدية منتقلاً من اليقينية إلى التساؤلية، ومن التبشيرية إلى النقدية، وكان السجال والجدال جزءًا مهماً يحاول بهما استدراج النقاش ليرضي شغفه وتطلّعه إلى المزيد من تعميق الرأي بتقليبه مرّات ومرات، لاسيّما إزاء الآخر، وبقدر اعتباره الهوّية متحرّكة وغير ثابتة، أي أنها ليست معطىً ساكناً وسرمدياً، إلاّ أن بعض عناصرها كان يعتبرها قابلةً للثبات مثل الدين واللغة، وأما الجوانب الأخرى فهي تخضع لنوع التغيير في فهمنا أولاً وفي تفسيرنا ثانياً، مثلما هي عاداتنا وفنوننا وآدابنا وطريقة عيشنا، فهذه عرضةٌ للتغيير والتطوّر، حذفاً أو إضافةً، لاسيّما علاقتها بالثقافات والهوّيات الأخرى، تأصيلاً واستعارة. وكنت دائماً ما أضرب الأمثال عن العلاقة العربية- الكردية، وعندما فكّرنا في نهاية التسعينيات بالتعاون مع المناضل والقيادي الكردي صلاح بدر الدين أن نؤسس لجمعية صداقة عربية – كردية للبحث في المشتركات الإنسانية، كان النعيمي من أشد المتحمسين لها.

صحيح أن السياسات متغيّرة ومختلفة، وهذا ما كنّا نتفق عليه، لكن الصحيح أيضاً أن حقوق الشعوب كانت قائمةً، مثلما هي عملية التحوّل الثقافي فقد كانت تطوّرية، تدريجية، تراكمية، طويلة الأمد، وهو الأمر الذي يندرج في إطار تفاعل الهوّيات وتداخلها، لاسيّما من خلال عناصر التأثير القوية سياسياً وثقافياً واقتصادياً.

وعلى الرغم من اعتزازه بعروبته وشعوره القوي بانتمائه لأمة عظيمة، لكن ذلك لم يمنعه لاحقاً من اتخاذ موقف من الحرب العراقية- الإيرانية، التي كان يعتبر قيامها خدمةً للامبريالية والصهيونية، ولم يكن يجد بُدّاً من الدعوة لسحب القوات العراقية من الأراضي الإيرانية، مثلما كان مبادراً في الدعوة إلى وقف الحرب ووقّع بيانات معنا في مناسبات مختلفة، وفي الوقت نفسه وقف ضد فرض مشروع خارجي على العراق تحت أية حجة أو ذريعة، مثلما وقف ضد استجلاب جيوش أجنبية إلى المنطقة ودفع ثمناً باهظاً جراء موقفه ذلك، حين قضى نحو ستة أشهر في المعتقل. وبغض النظر عن ملاحظاته السلبية ومواقفه المعلنة إزاء الحكم في العراق، فإنه وقف بشدّةٍ ضد الحصار الدولي وضد العدوان والغزو، وهذه المرّة أيضاً دفع ثمناً باهظاً.

لقد شعر النعيمي أن العولمة التي استفحلت ولا مردّ لقوانينها إلاّ بالتمسك بالحقوق والهوّية الوطنية، العروبية، الإسلامية العامة، ولكنه أخذ ينظر بانفتاح أكبر إلى الهوّيات الفرعية أو الصغرى، مزيحاً ثقافة سائدة بالاستقواء والاستعلاء والفوقية في النظر إلى الآخر، سواءً كان دينياً، مسيحياً، أو غير عربي، كردياً أو أمازيغياً أو غير ذلك.

لقد وقف النعيمي ضد الانكفاء والتشرنق والتعصّب والانغلاق وضيق الأفق القومي، وكان يرى إن الدفاع عن وجود الدولة الوطنية ووحدتها، إحدى المعادلات في هوّية أوسع وأكثر تعبيراً عن تطلّعات الأمة، حيث كان يحلم بالوحدة العربية التحرّرية القائمة على العدالة الاجتماعية.

كان النعيمي يعتبر الثقافة الوعاء الذي يمكن أن يستوعب الهوّية، بل ويجسّدها، لاسيّما الشعور بالانتماء، وخصوصاً للقيم المتفاعلة مع الأنا، إنسانياً، لغوياً ودينياً، إضافةً إلى التقاليد والعادات والفنون وكل ما يجسّد حياة الناس وأسلوب عيشهم، وذلك جزء من التطور الحياتي على صعيد الفرد والمجتمع.

خضنا ذات مرّة نقاشاً مفاده إن الاهتمام بالهوّية لا يعني عدم الشعور سابقاً بها، لكنها أصبحت بعد انهيار الكتلة الاشتراكية مَعلماً من معالم التغييرات العالمية، والسبب أن ذلك مردّه يعود إلى انكماش دور الآيديولوجيا وانخفاض منسوب الصراع الآيديولوجي. وقد أضاف لي رأياً مهماً وهو صعود ما أطلق عليه «الصحوة الإسلامية» التي جاءت عقب الثورة الإيرانية – الإسلامية في العام 1979، وكان من الذين كتبوا بصورة مبكّرة حول هذه الظاهرة وأصدر في حينها كراساً بعنوان «مساهمة في الحوار حول الحركة الدينية»، ومن أبرز عناوين الكتاب «من يحمي عروبة البحرين ومن يحارب النزعة الطائفية؟» وذلك في العام 1987. وكان الحوار حول الدين ودوره، والمسألة الدينية في القضية الوطنية والاجتماعية قد استحوذ عليه. ولعلّ قراءة مقدمة الكتاب المشار إليه تعطينا حقيقة الانشغال، بل والانهمام بتلك المسألة الصاعدة، منذ وقت مبكر، ومما جاء في مقدمة الكتاب «لا شك أن الامبريالية العالمية غير معنيّة بمن سيدخل الجنّة ومن سيدخل النار في الحياة الآخرة، لأن الامبرياليين لا يؤمنون بربٍّ غير المال، ويريدون جنّة الدنيا لوحدهم، وإذا كان من جنة أو نار بعد الموت، فهم سيدبّرون أنفسهم لاحقاً كما يدبّرون أية صفقة تجارية كبيرة».

وانصبّ نقاشه أيضاً على أن عصر الهوّيات بعد القوميّات والآيديولوجيات قد أصبح له شأن كبير، ولم يكن ذلك بعيداً عن الدين من جهة، ومن جهة أخرى بالثورة العلمية التقنية، لاسيّما وجود السوق الدولية وانتشار الفكرة الليبرالية أيضاً بما لها وما عليها. كان في ذلك يريد أن يدلل على دور الثقافة وتعاظمها جماعياً وفردياً، ليس في إطار العمل الإبداعي، بل على مستوى السياسة والاقتصاد والاجتماع، فقد سعت العولمة إلى تسليع الثقافة بهدف تحطيم منظومة القيم، عبر نمط الاستغلال والفردانية، وهو الأمر الذي انعكس على الهوّيات الفرعية بعد عسفٍ ذاقته من الهوّيات الكبرى.

في نقاش طويل معه اعتبرنا أن الدين ظاهرة تستحق الدراسة، بل والتعمّق فيها، لأنها تكاد تكون ظاهرة أزلية. والماركسية النقدية الجدلية الديالكتيكية لا تتخذ موقفاً مسبقاً من الظواهر الاجتماعية، بقدر ما تدرسها وتتبين آثارها ونتائجها على حياة المجتمع، واتفقنا بعد حوارات معمقة أن ليس بثوري من يقف ضد الدين، مستهجنين الصبيانية اليساروية والطفولية الثوروية بمعاداة الدين أو الاستخفاف بالشعائر والطقوس الدينية، وهو ما أدرجته في كتابي «تحطيم المرايا - في الماركسية والاختلاف» وهناك فارق كبير بين الدين والتديّن.

وبقدر النقد الذي كان يوجهه النعيمي للتيار القومي التقليدي وللتجارب القومية الشمولية، وهو ما كنت أشاطره فيه، فقد كنّا أيضاً ننظر بشيء من عدم الاطمئنان، بل والقلق المصحوب بالنقد للتجارب الاشتراكية القائمة، حيث يتم تذويب فردانية الفرد في الجماعة، بمعنى إلغاء شخصيته المستقلة، بزعم مصالح الكادحين ومتطلبات الاشتراكية وغير ذلك، مثلما تلغي التجارب القومية فردانية الفرد بحجة مصلحة الثورة والأمة والصراع مع العدو الصهيوني. وتبرّر القوى الدينية ذلك الإلغاء بمتطلبات الدين وحاكمية الله، وغير ذلك. وفي هذا الصدد، أستعيد هنا الرأي الذي سبقنا إليه المفكر السوري الريادي الياس مرقص حول إن المجتمع هو «مجتمع الأفراد»، والأمة أو الشعب، وبالتالي فهي «أمة الأفراد» أو «شعب الأفراد»، ولا معنى ولا قيمة لمجتمع بدون حرّية الأفراد، فالمجتمع هو على شاكلتهم، أي إن المجتمع الذي يلغي حرية الأفراد سيكون قد ألغى نفسه، بمعنى ألغى حريته واستقلاله وخصوصيته.

الفرد والخصوصية هما جوهر العام وماهيته، وأي إلغاء لهما يعني إلغاءً للأمة، وبدونهما ستكون هناك حالة من التناثر الاجتماعي. ومثلما كنّا شديدي الإعجاب بالجدل الماركسي الديالكتيكي، فإن بدايات وعينا الجديد، كانت تتجلّى بالاستفادة من المدارس الاجتماعية الأخرى، فالماركسية لا تتضمن حقائق معصومة، وعلينا اكتشاف أدواتنا في الواقع العربي الزمكاني (أي في الزمان والمكان المحدّدين)، وأود هنا أن أسجل إن عبد الرحمن النعيمي ومن موقعه اليساري كان أكثر اعتدالاً سواءً عندما بدأ حياته مع حركة القوميين العرب وفيما بعد واصل نضاله في الجبهة الشعبية لتحرير البحرين وتطوّر معهما. ويمكنني القول إنه كان سبّاقاً في النقد والمراجعة، ولكن دون تطرف أو تخلّي عن منطلقاته الأولى، وقد استفاد إلى حدود كبيرة من المنهج الماركسي، كما استفاد من المدارس الفكرية والاجتماعية الأخرى.

وهكذا كان نقدنا للستالينية وطبعتها المحلية، خصوصاً طابعها الشديد الاعتماد على العامل الاقتصادي، ناهيكم عن بعض مواقفها على الصعيد العربي، سواء ما يتعلق الأمر بقرار التقسيم أو الاعتراف بدولة «إسرائيل» دون نسيان مواقف الاتحاد السوفياتي ودعمه اللاحق للعرب، لكن النظر إلى الستالينية وذيولها ومخلفاتها، كان أمراً يتّسم برؤية جديدة خارج نطاق المسلّمات، فقد كانت أمميته وعروبته تتجسدان في إطار المراجعات الفكرية والسياسية دون تبعية أو تقليد. ولعلّ الياس مرقص هو من اعتبر الستالينية مقطوعة الجذور عن الماركسية لافتقارها للروح الجدلية وأسس المعرفة، علماً بأن هذه الأخيرة لا تتوقف عندها المعرفة، فقد كان ماركس ذاته متحرّراً من النصيّة والعصبوية. (يتبع).

إقرأ أيضا لـ "عبدالحسين شعبان"

العدد 4507 - الخميس 08 يناير 2015م الموافق 17 ربيع الاول 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً