العدد 451 - الأحد 30 نوفمبر 2003م الموافق 05 شوال 1424هـ

الديمقراطية في الحزب الثوري - الجماهيري

حـين تزدري السـياسة الفـكر!

عبدالحسين شعبان comments [at] alwasatnews.com

كاتب عراقي وحقوقي عربي

لا يمكن الحديث عن الديمقراطية في الحزب الثوري أو الحزب الجماهيري من دون الحديث عن الديمقراطية، كأفكار وحقوق وقانون وآليات وممارسات. فالموضوع على غاية من الاهمية الفكرية والسياسية والعملية، لانه بحسب اعتقادي أحد اركان ازمة الديمقراطية في الوطن العربي. والكثير من الاحزاب والقوى التي تنادي بالديمقراطية وتسطّر الكثير من المبادئ الديمقراطية في برامجها تفتقد إلى الديمقراطية هي ذاتها في حياتها الداخلية وفي علاقاتها مع الآخرين. ويعود الامر لاسباب موضوعية واخرى ذاتية.

لعلّي هنا استخدم مصطلح الحزب الثوري ومرادفه الحزب الجماهيري، فهو المصطلح الأكثر شيوعا، ويعود هذا إلى جذور الفكرة التاريخية وتطورها خصوصا الفكرة العقائدية للحزب.

انتشر مصطلح «الحزب الثوري» عند صراع لينين مع كل من بليخانوف ومارتوف وروزا لوكسمبرغ، فقد كان لينين يميل إلى بناء «حزب ثوري» مركزي شبه عسكري ومنظمة ثورية ذات ضبط فولاذي Displine بالضد من المارتوفية التي تحدثت عن كتلة او تيار بمواصفات أقل صرامة. وظلّت المارتوفية وصمة عار تلتصق بكل جهة تطالب بالديمقراطية أو بالمرونة داخل الحزب الثوري وتريد التقليل من الصرامة والمركزية الشديدة.

واستندت «الحركة الثورية» في بناء الحزب والمنظمة الثورية الى كتاب لينين «ما العمل؟» الصادر العام 1903 وأحكامه المتشددة ومعاييره الصارمة، التي لم أخذت بها الاحزاب الشيوعية وخصوصا في طبعاتها الستالينية وكذلك الاحزاب القومية والاسلامية فيما بعد. وهكذا تحولت تجارب الأصل والنوع في التجارب العلنية والسرية (الحاكمة وغير الحاكمة) طبقا للوصفة الستالينية إلى بيروقراطية واستبداد وغياب للديمقراطية سواء على المستوى العام أو على مستوى الحياة الداخلية وفي احيان كثيرة امتهن دور الفرد واذلّ وفي حين جرى التعظيم من شأن الزعيم، البطل، الحكيم، الفيلسوف، الاديب، الامين العام.

وهنا بودي أن اذكر مع الكاتب والصحافي عبدالحسن الامين عندما كتب عن «الحركة الاسلامية» واصفا تنظيمها باللينيني، كما اذكر الكاتب والباحث فاضل الربيعي بإعجاب كتابه المعنون «كبش المحرقة... مجتمع حركة القوميين العرب» واصفا الحزب، المجتمع الصغير بـمجتمع المؤمنين، كما يرى نفسه.

و اذا كانت الاحزاب الثورية قد رفعت شعارات الديمقراطية بحسب الحاجة، وخصوصا عندما تكون في المعارضة أو خارج السلطة واستعان البعض بقوى اجنبية ضد بلده احيانا وذلك للخلاص من انظمة استبدادية وشمولية فإن هذه الاحزاب ساهمت في تقنينها سواء كانت احزابا شيوعية أو قومية أو اسلامية باسم «الديمقراطية الثورية» أو «الشعبية» أو «الاجتماعية» أو «قوى الشعب العاملة» أو «الخيار الاسلامي» أو «مواجهة الاعداء والشيطان الأكبر» أو غير ذلك. بل انها غسلت منها ايديها جميعا سواء عند الوصول الى الحكم أو في الممارسة الداخلية، وفي أحيان كثيرة في العلاقة مع الآخر، وخصوصا عند الاختلاف في الرأي.

واذا كانت الديمقراطية بشكل عام آلية و«ميكانزم» واسلوبا للحكم والتنظيم والادارة فإنها تعني المساواة واحترام ارادة الاكثرية وصيانة حقوق الاقلية وذلك من خلال المساءلة والشفافية وسيادة القانون أو النظام الذي يحكم العلاقات الداخلية، ولا يمكن إلغاء تلك الحقوق بما فيها حق التعبير وحق الاعتقاد وحق التنظيم السياسي والمهني وحق المشاركة وتولي المناصب العليا بحجة مصالح الكادحين أو الطبقة العاملة أو القوى الثورية العربية أو الاسلام أو الخطر الخارجي أو المخربين أو غير ذلك. الديمقراطية بقدر ما هي آليات فهي تطوير تدريجي للواقع وقبول قواعد اللعبة والامتثال إلى التعددية والتنوع والتداولية.

ضرورة المراجعة

إن الكثير مما قيل في الديمقراطية المركزية واسس التنظيم اللينيني في الحزب الثوري بحاجة الى مراجعة واعادة نظر فالكثير منه يعاني من عسر الهضم وعدم القدرة على التكيف مع الحياة، لذلك يتطلب الامر نقد الواقع والسعي إلى تغييره بعد ان وصلت التجربة الى طريق مسدود وانهارت بشكل عاصف. فلم تعد مقولة «نفذ ثم ناقش» صالحة لروح العصر وللتفكير الحر والمستقل ولعصر المعلومات والثورة العلمية - التقنية وثورة الاتصالات، كما لم تعد فكرة «خضوع الاقلية للأكثرية» مقبولة وخصوصا ان للأقلية حقوقا ينبغي صيانتها ومنها حق التعبير ولعل بعض الاحزاب الاوروبية تتيح للأقلية ليس فقط حقها في قول الرأي ونشره بصدد اجتهاداتها الفكرية والسياسية التي هزمتها الغالبية بل تقوم هي كقيادة بطبعه ونشره وتعميمه على عموم الحزب ليطلع على الآراء وتأخذ صحافة الحزب تنظيم الحوار والجدل. وكذلك مقولة «خضوع الهيئات الدنيا للهيئات العليا» كأساس اعمى للتنفيذ اللاشرطي للقرارات الحزبية.

ولعل قصة نشر زينوفيف وكامنيف بيانهما عشية الثورة البلشفية 1917 والذي كشف خطة الثورة «للأعداء» لم تكن سوى اجتهادات فكرية صفح عنها لينين في مرحلة من مراحل النضال التي اتسمت بنوع من الطهرية، على رغم الكثير من الاخطاء والثغرات، إذ ابقي عليهما كأعضاء في اللجنة المركزية بعد انتصار الثورة البلشفية واستمرا حتى اعدمهما ستالين العام 1934 في مرحلة التصفيات الجسدية الهائلة التي شملت مئات القيادات، بالاضافة إلى عشرات الآلاف من كوادر وملاكات الحزب، بسبب انعدام الهوامش الديمقراطية وصعود عبادة الفرد والتسلط واستخدام الولاء قبل الكفاءة والاخلاص.

وثمة من يتذكر الحوارات بشأن صلح بريست لستوفسك وآراء تروتسكي ومجموعة المناشفة بشأن الصلح وما يترتب عليه من تعارضات حادة وصلت إلى حد الاتهام بـ «الخيانة»، ومع ذلك فإن مثل تلك السجالات ذات الطابع الفكري كانت مقبولة.

لكن الامر اتخذ منحنى آخر فيما بعد وكان هو جوهر الممارسة الستالينية اللاحقة، إذ ابتدأت بتصفية الاعداء الخارجيين ثم الاعداء أو الخصوم الداخليين وربما بقسوة أشد.

ولعل لينين بحسب جورج طرابيشي، هو الذي اتخذ قرارات بتدمير «الدولة البرجوازية»، إذ قرر حل الجمعية التأسيسية لأن نسبة البلاشفة لم تصل إلى 25 في المئة وتصفية السوفيتات التي لم تكن فيها للحزب اليد الطولى وحظر النشاط السياسي والحزبي للقوى والاحزاب المعادية للسلطة السوفياتية بمن فيهم حلفاء الحزب البلشفي من الاشتراكيين الثوريين اليساريين وهو الذي اتخذ قرار اعتقال جميع المناشفة المشكوك فيهم وبولائهم وقرار اعدام نحو 2000 من قيادات وكوادر المناشفة والاشتراكيين الثوريين اليساريين، بما هيأ الاجواء لاحتكار العمل السياسي والانفراد بالسلطة ومصادرة الرأي الآخر وتجريم الاختلاف.

لقد برر لينين تلك التدابير لحماية الثورة وحماية النفس، وهو امر واجب واستثنائي ولكن الاستثناء تحوّل الى قاعدة، إذ استمرت الحالة الثورية مهددة، واستمر وتصاعد القمع وخصوصا في العهد الستاليني ليشمل الحزب اولا وخصوصا بعد تصفيته الخصوم الخارجيين، والفكرة ذاتها وجدت طريقها الى الاحزاب الثورية الاخرى فاليمن صفت قبائلها الماركسية الواحدة تلو الاخرى والبعث تأمرت قياداته الواحدة ضد الاخرى وانتهت باعراس للدم لا مثيل لها، ففي مجزرة العام 1979 صفت قيادة صدام حسين بضربة واحدة ثلث اعضاء القيادة القطرية (5 من مجموع 15) وبلغ مجموع الكوادر التي أعدمت في حفلة خاصة 22 قياديا وحكم على 33 آخرين احكاما ثقيلة لم يخرج منهم حي بعد أربع سنوات سوى 17 شخصا.

تصفية باسم المواقف

أما الاحزاب السرية أو «المعارضة» فحدث ولا حرج ففي ضربة واحدة صفيت نصف قيادة الحزب الشيوعي العراقي عشية وخلال ما سمي بالمؤتمر الرابع وعشرات من كوادر الحزب بحجة وجود آراء مغايرة واختلافات تتعلق بالموقف من الحرب العراقية - الايرانية واساليب الكفاح والتحالفات والاستحواذ على امور التنظيم والتلاعب بمقدراته وماليته. ووصف أحد أقطاب الصراع قرارا للمكتب السياسي: بأن خمسة اجتمعوا فطردوا خمسة، مشيرا ان خمس قيادات طردت خمس قيادات.

وتشظى حزب الدعوة الاسلامي الى خمسة او ستة احزاب ولم يبق من هيكله القيادي سوى اعضاء قليلون وادنى مستوى من القيادات التي تركت الحزب وفي احزاب قومية عربية عراقية، لم يبق من الحزب سوى اسم الامين العام، وشجع انقسام الوضع الكردي الى حزبين رئيسين ومن ثم الاقتتال بينهما الى صعود عناصر انتهازية ووصولية خصوصا لملئ فراغات حزبية وادارية اقتضتها المحاصصة ونسبة الـ 50 في المئة X 50 في المئة.

وهناك احزاب نشأت في المعارضة، فبقيت تدور حول اسم الامين العام، الذي بدّل طاقم قيادته كلها ولم يبقِ منهم أحدا ومع ذلك ظل هو بكل خيلاء يتحدث عن حركة وتيار وقوى وامانة عامة. وهناك احزاب غيّرت قيادتها عدّة مرات من دون عقد مؤتمر أو مجلس حزبي لاختيار اعضاء هذه القيادات والتذرع دائما هو ظروف العمل السري والاستثنائي واختراقات العدو. وكانت احدى الحركات اليسارية قد نشأت وطرحت برنامجا باسم «المنبر» ثم اختفت بتبديل بعض عناصرها برحيلهم من المعارضة الى النظام من دون تبرير يذكر ومن دون ان يغير النظام قيد أنملة من اطروحاته بينما تحول هذا البعض بتخليه عن برنامج عقلاني ومراجعة متوازنة للتجربة على الصعيد الفكري والسياسي الى المعسكر الآخر وقطع صلته بالماضي.

اذا كان ثمة صراع، فصراعات الديمقراطية لابد ان تكون سلمية، مدنية، والمبارزة لا تنتهي عادة بين قاتل ومقتول بل هي بالنتيجة مناقشة حرة للبرنامج وللرأي والخيار والاحتكام الى الجمهور.

ولم يستطع «الحزب الثوري» بما فيه الاحزاب الشيوعية من استيعاب الفكرة الماركسية القائلة بأن مستقبل الحزب بوصفه «طليعة» اذا جاز التعبير سيكون رهنا بتحوله الى «كتلة شعبية» اي تيار عريض وواسع وليس بقصره على طبقة، اذ انها ستضيق في نهاية الامر. وعلى رغم ان لينين اسماها دكتاتورية الـ 9 في المئة ضد 1 في المئة أو ديمقراطية الغالبية ضد الاقلية المخلوعة وبهذا المعنى اراد ان يعطي لدكتاتورية الطبقة العاملة والكتلة الشعبية الطابع الديمقراطي ضد الاقلية.

ان فكرة ماركس عن الحزب، اي ماركسية القرن التاسع عشر هي غيرها ماركسية لينين وستالين والاحزاب الشيوعية العربية فيما بعد، وينقل الكاتب المجدد فاضل الربيعي كيف تحوّل مفهوم الحزب الى الرأي الواحد والزعيم الواحد عبر حوار بين أنجلز وتلميذه كارل ليبكخنت، إذ طلب الثاني من الاول برسالة رقيقة كتابة مقال لصحيفة الحزب وهذا ما فعله أنجلز على الفور، لكنه فوجئ بمقالته التي نشرت في اليوم الثاني وقد قطعت إربا... إربا وحين تساءل في رسالة عتاب الى تلميذه عن السبب الذي دعا محرر الصحيفة إلى التلاعب بافكارها ردّ هذا مفتخرا «لقد حذفنا منها كل ما يتعارض مع خط الحزب» فما كان منه إلاّ ان يهتف ومتى علمناكم ماركس وأنا ان السياسة أهم من الفكر؟

هذه الحادثة نتذكرها باستمرار عن دور الجماهير في الحزب الثوري، خصوصا وقد تدفقت جماهير غفيرة وغير متعلمة أو قليلة المعارف الى الاحزاب لتتبوأ مواقع اساسية ومقررة في الحياة السياسية والفكرية للأحزاب الشيوعية والثورية مما أثر على سياساتها وجعل القيادات أسيرة هذا الفهم المسطح والساذج لدور الفكر.

كنت منذ الستينات اناقش مع قيادات وكوادر وفي اجتماعات موقف الاتحاد السوفياتي من قرار تقسيم فلسطين العام 1947، والعلاقة بين الايديولوجي اي المقصود الفكري - النظري وبين العملي والسياسي واليومي وفي كل مرة كنت أجد تبريرات ربما أشّد خطأ من الفعل ذاته واكتملت الفكرة في ذهني بقناعات مخالفة كانت تكبر مع مرور الايام لدرجة أصبحت احدى هواجسي فألقيت محاضرة في دمشق و بيروت عن الرؤية الجديدة للموقف السوفياتي من قرار التقسيم: الفكري والسياسي عبر نقد ذاتي وملاحظات، حاولت أن اغطي الجانب الفكري لكي اخطئ القرار في ضوء الماركسية. واناقش السياسة لكي اكتشف اخطاء اخرى اشد خطورة في التطبيق عبر جهاز وزارة الخارجية السوفياتية والخبراء المعنيين وخصوصا ان بعضهم وهو اساسي كان يهوديا وربما صهيونيا، لاعتبر ذلك بالنسبة لنا نحن العرب واحدا من اخطاء القيادة الستالينية التي لا يمكن غفرانها.

وفي حادثة اخرى واجهت الموقف الذي يحط من قيمة الفكر، فعند ضرب المفاعل النووي العراقي في حزيران/ يونيو 1981 كتبت بحثا عن تقويم ذلك وما يترتب عليه في ضوء القانون الدولي، و طلب مني المرحوم عامر عبدالله تقديمه الى الثقافة الجديدة لكن الهروب من مواجهة هذا الخطر الفكري كان يمر عبر تبريرات و ذرائع سياسية أو مناقشة ما هو راهن للقفز على التاريخ، لكنني فوجئت بعدم نشره على مدى عددين تالين والموضوع راهني. واعتذر عامر عبدالله لأن الامر ليس بيده وكان من المتحمسين لمناقشة هذا الموضوع وللبحث بالذات، وقال ان «التبرير» الذي اعطي له هو اننا نرفع شعار اسقاط السلطة ويتبين ان البحث قد يعطي انطباعا بان ثمة دفاع عن الوضع، ما قد يسبب ارتباكا في صفوف قاعدة الحزب وانصاره البيشمركة الذين يحملون السلاح في كردستان.

واستغربت للأمر فما علاقة ذلك بالراهن السياسي والمقال مكتوب بلغة حقوقية تندد بموقف «اسرائيل» وتعّريه وتضع مسئوليات ليس على «اسرائيل» وحسب بل على حكومة العراق والبلدان العربية ممن سهل وتهاون في حماية هذا المنجز العلمي - السلمي.

ورددت مع نفسي طرفة شاعت آنذاك عن قارئ المنبر الحسيني الذي طلب منه صاحب المنزل عدم التعرض الى من قتل الحسين ومن يقف وراءه ومن يستفيد منه، فما كان منه إلاّ ان ردد مازحا «الحسين انقتل بالكهرباء ومات»!

وللقصة طرف آخر، فالمقال العتيد والمعتق حملته ذات يوم الى بيروت، وطلبه مني مركز الانماء العربي في بيروت، وسلمته الى مديره الذي نادى على رئيس التحرير وطلب منه نشر المقال في العدد المقبل لأهميته، ولكنني فوجئت مرة اخرى بعدم نشره، واذا برئيس التحرير وهو صديق عزيز، طلب مني مع شديد الاعتذار ان احذف منه فقرة كانت قد نددت بتهاون الحكومة العراقية بحماية هذه الثروة الوطنية خوفا من تفسيرها سلبيا وبالتالي قد يضعف من الحجج والاسانيد التي تدين «اسرائيل» باعتبارها المرتكب والجاني. وهكذا قلت مرّة اخرى هذه هي السياسة التي تهيمن على الفكر الذي يُبتذل في أحيان كثيرة. ونشرت البحث في مجلة الهدف الفلسطينية فيما بعد وعدت وطورته لانشره كفصل مستقل في كتاب «القضايا الجديدة في الصراع العربي الاسرائيلي» بعنوان: السلاح النووي والصراع العربي - الاسرائيلي.

السياسة وتجسيد الثقافة

لقد فهمت السياسة باعتبارها تجسيدا أعلى للثقافة والفكر وتلك كانت احدى الاشكالات المزمنة التي ساهمت في الافتراق ما بين اليومي والآني وما بين الستراتيجي والبعيد المدى، فرجل السياسة غير رجل الفكر والباحث غير الداعية.

لقد هيمنت على الاحزاب الثورية فكرة اساسية وهي كيفية الاستحواذ على الجماهير أو الاستيلاء عليها. وهذه الفكرة المحورية شكلّت هاجسا للحركة الشيوعية وللبعث ولحركة القوميين العرب وللحركة الناصرية وللحركة الاسلامية وخصوصا «الاخوان المسلمون» وحزب الدعوة وغيرهما، بينما لم يكن كامل الجادرجي أو حسين جميل أو محمد حديد من التيار الوطني الديمقراطي وجعفر ابوالتمن أو محمد مهدي كبة من تيار وطني وعروبي يفكرون بطريقة الاستحواذ على الجماهير، بقدر ما يعّبرون عن تطلعاتها في اطار حركة النخبة، وكانت تيارات واسعة وكتل كبيرة تنحاز اليهم، في اطار شعارات عامة من دون التزام أو تنظيم، بينما اثقلت جماهير الشيوعيين والاسلاميين والبعثيين والناصريين على احزابها ودفعت قياداتها لتوجهات لم تكن لتؤمن بها.

وقد عبّرت احدى القيادات الشيوعية العراقية في حوار معي عن مدى الايمان بالكفاح المسلح والسير بهذا الطريق، وخصوصا بعد خسائر وتضحيات كبيرة، فقال بصراحة: لقد حاولنا الهروب من الازمة برفع اكثر الشعارات تطرفا واذا بنا نكون ضحية ضغط القاعدة، لكننا واصلنا ويقصد المكابرة بينما كانت القاعدة قد غيرّت رأيها!

لقد وجد الموديل الستاليني ضالته الى البعث إذ جرى استنساخه بطريقة فظة، بينما ذهبت حركات قومية عربية بما فيها بعض اجنحة المقاومة الفلسطينية، في اقتفاء اثر الحركة الشيوعية بطبعة الخمسينات، فبدأت من تجربة كانت قد انتهت، ولذلك راجعت بعض هذه الاجنحة مساراتها متخذة من «فتح» صيغة عريضة وواسعة وكتلة شعبية تجمع تيارات على صعيد هدف مركزي واحد (فلسطين).

ان المعضلة هي معضلة فكرية، وهي تتصل بتقديم أولوية الفكر على السياسة وهذا لايزال يهيمن على تصورات وسياسات سائر احزاب الوطن العربي الثورية وهكذا تفجرت في وقت لاحق مشكلات الحزب التنظيمية والموقف من الديمقراطية بسبب اشكالية علاقة الفكر بالسياسة وتقديم الاخيرة على الاولى.

يقول فاضل الربيعي في كتاب جديد يصدر له قريبا اطلعت على مسودته بعنوان «من أيقظ علي بابا؟ النهب الاستعماري وعقلّية الفرهود العراقي في زمن الاحتلال»: ان الحزب الثوري (الجماهيري) يعيش عقدة الخوف من الخارج. والخارج ليس سوى الافكار الهداّمة، المغايرة، المختلفة، التي تهدد نقاوة النظرية لدى الشيوعيين وتهدد مصير الامة لدى البعثيين والقوميين والناصريين وتعرض الاسلام لمخاطر البدع عند الاسلاميين.

هكذا يجد المرء نفسه في مجتمع مغلق، هو الحزب الجماهيري، الذي تقلصت جماهيريته إلى أقصى حد، ولم يتبق منه سوى العقيدة التبشيرية بالخلاص، وحتى هذه فقدت بريقها أحيانا امام منعطفات ومتغيّرات هائلة.

الحجْر على النقاش

وحتى الجدل والحوار احيانا يجري اخضاعه لبعض القوالب ولا يسمح عادة بالتبادل الحر والنقاش الخصب للأفكار فأزمة الحزب الثوري ستنتقل من مجرد ازمة داخلية الى معضلة فكرية غير قابلة للتسوية، وخصوصا في حق الاعضاء أو افراد المجتمع في رد الاعتبار الحقيقي الى السياسة وجذرها الحقيقي كفكر وبين مفهوم السياسة لدى القيادة كبرنامج يفوق في اهميته كل فكر بحسب فاضل الربيعي نفسه، الذي يقول: لقد تلاشى الحزب الجماهيري فعليا وبدأ يخرج من المسرح السياسي وذلك بداية لعهد جديد يكون الفكر فيه هو الاساس وذلك بزوال عصر المداخن وايديولوجيته الصارمة وحل محلّه ببساطة عصر جديد يستحيل معه التوفيق بين التصورات القديمة للعالم وبين التطورات المذهلة الجارية فيه في كل ركن وزاوية من حياة البشر. (رسالة خاصة للكاتب عن الحزب الجماهيري والديمقراطي).

ثمة سمات مشتركة يعاني منها الحزب الثوري الجماهيري، سواء كان ماركسيا أو اسلاميا أو قوميا وعلى المستوى الموضوعي والذاتي فمن الناحية الموضوعية فإن معظم الحركات والاحزاب «الثورية» و«الجماهيرية» اضطرت الى العمل السري وذلك بسبب الارهاب الذي تعرضت له، وقد خلقت ظروف الارهاب اوضاعا استثنائية وغير طبيعية ساعدت في التضحية بالديمقراطية الداخلية وبالمناخ الديمقراطي وتعددية الاراء، بحجة «الخطر الخارجي» والخوف من اختراقات العدو، وادى هذا الى تعزيز النزعات البيروقراطية وانتعاش الميول الفردية والذاتية، وخصوصا تقليص فرص وامكانات المساءلة والرقابة والشفافية.

ووفقا لادعات كثيرة بالظروف الشاذة والاحكام العرفية والملاحقات تم تجميد الانظمة الداخلية في «الاحزاب الثورية» تحت لافتة «الضرورات»، والعمل السري وغيرهما.

ولاشك ان استمرار اوضاع وظروف العمل السري ادت الى ظهور قيادات غير كفؤة وغير منتخبة وغير معروفة، من جانب جمهرة الاعضاء، وهذه بدورها قادت هذه الاحزاب الى سياسات اما مغامرة أو انعزالية، وخصوصا في ظل نقص المعرفة وقلة التأهيل، ما شجع المزاج غير الديمقراطي داخل هذه الاحزاب.

وجرى الارتياب من الرأي الآخر، الذي نُظر اليه وكأنه عين العدو أو الخصم أو المنحرف داخل التنظيم، ما شجع على تفشي ظاهرة الارهاب الفكري وقمع الرأي الآخر ومصادرة الحق في التفكير، بل وتنحية المسئولين الذين لا يتفقون مع السياسة العامة. واصبحت تلك الظواهر المرضية بما فيها «الاجماع المصطنع» والحديث عن «وحدة الارادة والعمل» تعني فيما تعنيه إلغاء الحق في الاختلاف.

وغالبا ما تمت معالجة هذه الظواهر بالانقسامات والانشقاقات التي رافقتها عمليات تخوين وتأثيم وتجريم وتسريب معلومات كل طرف عن الطرف الآخر، ولا يهم في ذلك ان وصلت مثل هذه المعلومات إلى العدو أو الخصم او جهاز الأمن.

إزدراء الفكر

ومن يقرأ مذكرات هاني الفكيكي «اوكار الهزيمة» أو مذكرات زكي خيري «صدى السنين في ذاكرة شيوعي عراقي مخضرم» وكذلك مذكرات بهاء الدين نوري ورحيم عجينة «الاختيار المتجدد» وكتاب سلام عادل (جزآن بقلم ثمينة ناجي يوسف) ومذكرات صالح دكله «من الذاكرة» ومذكرات محسن دزئي «احداث عاصرتها - جزءان» ومذكرات الجواهري الكبير جزآن و«الديوان» لمصطفى جمال الدين ومذكرات باقر ابراهيم ومذكرات خالد علي الصالح واسرار ثورة 14 يوليو/ تموز لاسماعيل العارف ومذكرات طالب شبيب «عراق 8 فبراير/ شباط 1963» وغيرها. ويمكن اضافة مذكرات «خالد بكداش يتحدث» ومذكرات نبيه رشيدات «أوراق ليست شخصية» و«كريم مروة يتذكر»... إلخ. يتوصل الى استنتاجات خطيرة عن الطريقة التي كانت تفكر بها القيادات، إذ كان يتم ازدراء الفكر في احيان كثيرة.

لقد ساهمت ظروف العمل السري في حبك المؤمرات والدسائس في الاحزاب الثورية، وتغييب الراي الآخر وافراغ الديمقراطية من محتواها وغياب المصارحة وعدم الاعتراف بالخطأ وتراجع فسحة الحرية في التعبير عن الرأي وتفشي ظاهرة الشك واختراقات العدو، كما ادى الى تكريس دور القيادات حتى ان بعضها لم يغادر موقعه الاّ الى القبر احيانا وهذه الظاهرة ليست عربية، وليست خاصة بالحكام، بل بقيادات الكثير من الاحزاب، التي طبعت حياة الحزب كلّها بطابعها. وكان ذلك يعني عدم وجود تداولية في الادارة أو تناوبية على مستوى المسئولية بما يؤدي الى تكريس عبادة الفرد، وخصوصا بوصول بعض التجارب الى الحكم.

وكان لانعدام المعلومات في مرحلة سابقة وحرص القيادة على الاحتفاظ بها وتقطيرها قطرة قطرة إلى قواعد الحزب مساهمة في تجهيل القاعدة عما يجري في الحزب وخارجه.

تلكم هي سمات عامة تشترك فيها الحركة الثورية سواء كانت ماركسية ام قومية أم اسلامية.

أخلص الى القول: ان الديمقراطية داخل الحزب الثوري - الجماهيري لا يمكنها أن تتحقق إلاّ اذا أعدنا تركيب المعادلة برد الاعتبار الى العلم السياسي، الى الفكر بعيدا عن معاداته أو الذعر أو الهلع منه باعتباره شيئا قادما من الخارج.

ولن يتحقق ذلك إلاّ بتحول الحزب الى كتلة شعبية تعّبر عن هموم وتطلعات الشعب بكل طبقاته وفئاته واعادة السياسة الى جذرها كنشاط فكري حي. وعند ذلك يمكن للسياسة بوصفها التجسيد الاعلى للفكر والثقافة ان تتحقق، وفي ذلك احد حلول المشكلة الديمقراطية على المستوى الداخلي للأحزاب الثورية - الجماهيرية

إقرأ أيضا لـ "عبدالحسين شعبان"

العدد 451 - الأحد 30 نوفمبر 2003م الموافق 05 شوال 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً