العدد 4524 - الأحد 25 يناير 2015م الموافق 04 ربيع الثاني 1436هـ

بين أن ننسى أو نتذكر

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

كل يوم يمر علينا يحمل أحداثاً كثيرة. نتذكر ما يحضرنا ذهنياً، ونستعين بالكتب لتثبيت ما غاب عنا. لكن الأكيد، أن أحداثاً لا تُحصَى لم يُدوِّنها أحد، فماتت من ذاكرة الصدور وكأنها لم تحدث. بعضها جميل وحلو، وبعضها قبيح ومرّ لا يفهمه إلاَّ مَنْ تلمَّظه.

اليوم، هو الـ 26 من شهر يناير/ كانون الثاني. ما نتذكره من التاريخ البعيد بأنه وفي مثل هذا اليوم قام آرثر فيليب بالرسو في استراليا سنة 1788 لتأسيس أول مستوطنة أوروبية في تلك القارة الجديدة، على أنقاض الشعوب الأصلية لأستراليا. وفي مثل هذا اليوم أيضاً، قامت بريطانيا باحتلال هونغ كونغ سنة 1841. وفي مثله قامت فرنسا بمصادرة أملاك ثوار عين التركي في الجزائر سنة 1901، ثم تحل حزب المعارض مصالي الحاج سنة 1937.

ولو أحصينا سنوات التواجد الانجليزي في الهند لكان أمامنا 261 يوماً من أيام السادس والعشرين من يناير. ولو أسقطناها على أحداث أورانك زيب وإقليم البنغال وبلاسي وبكسر وإله آباد وميسور وسرنجابتم وحركة العصيان الثانية وغيرها من أحداث المواجهة بين الشعب الهندي والمحتل الانجليزي لسجَّلنا أهوالاً لا تُحصى مرَّت على البشرية.

هذا الأمر سيتكرر مع الفرنسيين في الجزائر، الذين احتلوها 132 عاماً! وفي المغرب طيلة 44 عاماً. وسيتكرر مع الطليان في ليبيا مدة 40 عاماً. ومع الإنجليز مرة أخرى في مصر طيلة 71 عاماً. والعديد من الأمصار العربية والإسلامية التي وقع عليها حَيْف الاحتلال الأجنبي، ليس آخرها احتلال أفغانستان (2001) والعراق (2003) وما بهما من أهوال.

كل هذه الأحداث، لم تكن سوى صورة من صور الصراع ما بين الغرب والشرق. نعم، لم يكن هناك صراعٌ بين أنداد، بل بين أقوياء وضعفاء في المدنية والتطور، فكان البارود هو لغة الإخضاع، التي فاجأت مَنْ كانوا يعتقدون بأن إشهار السيوف وتسريج الخيول هي القوة الأمضى في العالم، إلى أن تثلَّمت سيوفهم وتكرفست خيولهم أمام المدافع.

أستاذ التاريخ في هارفاد نيال فرغسون كَتَبَ سِفراً جميلاً طُبِعَ مؤخراً أسماه «الحضارة»، ناقَشَ فيه الأسباب التي مكَّنت الغرب من الهيمنة على الشرق. ورغم أهمية الكتاب، إلاَّ أن القارئ يستطيع أن يُناقش مادته التي يختصرها المؤلف في المنافسة والعلم والديمقراطية والطب والمجتمع الاستهلاكي وأخلاقيات العمل. هذا الاستنتاج غير صحيح؛ فهناك أمرٌ آخر حَكَمَ العلاقة بين الطرفين وهو سحق الجماجم.

قد يتحدث فيرغسون ليقول بأن الأسبان على سبيل المثال أسسوا «لحضارة جديدة ورائعة» في أميركا الوسطى، مُشيِّدين مع حلول العام 1692 «خمسة وعشرين جامعة مثل تلك التي شُيِّدت في سانتو دومينغو»، لكنه لا يستطيع أن يُنكر بأن ذلك حدث لأن المحتل للمكسيك ولعموم أميركا الوسطى كان يرى بأن ما يفعله ليس من أجل عيون بقايا شعوب الأنكا المسحوقة، بل للرعايا الأسبان المهاجرين والفاتحين، الذين اكتنزت بهم مدينة مكسيكو حتى وصلت أنفاسها إلى 100 ألف نسمة في تلك السنة، أي قبل 323 عاماً. وهو ما يساوي ملايين الأنفس في هذا العصر ولم يخرجوا منها.

لقد نَهَبَ المحتل الأرض التي جاءها بلا رحمة، وكأنه في مغارةٍ يريد أن يكنسها قبل أن يُغلق الباب. «بين العام 1500 والعام 1800 تم شحن ما قيمته - بأسعار هذه الأيام- نحو 109 مليارات جنيه استرليني» من الذهب أخِذَت «من العالم الجديد إلى أوروبا» نهباً، وبالتحديد من مناجم البيرو. لم يكن ذلك علماً ولا منافسةً ولا ديمقراطيةً ولا أي شيء آخر، بل هو نهبٌ صريح، كان يُمكن لأجيال تلك المناطق الواسعة أن تبقيها لأبنائها وأجيالها.

لقد أفقِرَت هيسبانيولا وزاكاتيكاس وبوتشي نتيجة النهب المنتظم للذهب والفضة والمعادن الثمينة. هذا الأمر تكرّر في أكثر من مكان في العالم الجديد والقديم بالسواء، حيث التوابل في الهند، والشاي في سيرلانكا، والأرز والحيوانات في إندونيسيا. لم تكن الأكاديمية الملكية للعلوم في فرنسا لتمنع الإمبريالية الفرنسية باتجاه الشرق. ولم تمنع الجمعية الملكية في انجلترا الأخيرة من أن تمد جيوشها نحو الشرق أيضاً لالتهام خيراته.

الموضوع ليس مرتبطاً بشكل صرف بأدوات مدنية اختيارية، فرضها فرق التطور ما بين الضفتين، بل هو ذو صلة بما جرى على مناطق العالم المضطهدة طيلة قرون من بلاءات على أيدي المحتلين، لأنهم بالأساس لا يرون في شعوب الدول التي أتوها سوى أنهم في مرتبة أدنى. لذلك، وجدنا في الدراسات التي أعِدَّت في الغرب، أن اللغة والخطاب الذي كان يُعَد ويُستَخدم في تلك المستعمرات من قِبَل المحتل كان لا يتناسب مع الآدمية في شيء.

لقد قال فيليب فرنانديز – آرميستو في مقدمة سؤال رسيلان الخاص بكتاب فيرغسون: تعود كل تعريفات كلمة حضارة إلى تصريف فحواه: أنا متحضر وأنت تنتمي إلى ثقافة وهو بربري». هذا أمر حقيقي وواقعي في نظرتهم للآخر. هم لا يرون أنك تنتمي إلى شيء سوى إلى البربرية أمام ما يمتلكونه هم من قوة وعلم وديمقراطية، لم يرتضوا لك يوماً أن تنال شيئاً منها، بطرق مختلفة أوضحها هو أن تموت تحت مَنْ يريدونه لك حاكماً.

مع شديد الأسف، هذا هو التاريخ، وهذا هو نتاجه. نتذكر قليله وننسى كثيره، لكن ذلك لا يغيّر من أن كثيرين قد ماتوا سحقاً تحت أقدام الراكضين نحو الغنائم.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4524 - الأحد 25 يناير 2015م الموافق 04 ربيع الثاني 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 4:14 ص

      مقال غنيّ بالمعلومات و الآلام

      شكراً أستاذ محمد على المقالة القيّمة ، و ظُلامات الشعوب و مآسيهَا .. تحتاج لمئات المقالات لكي تُـوَفّيها ، و لن تتوقف الظُلامات .. ما لم تتوقف (الوحشية و الإستبداد) في عقول الطُغاة و "مُستـعـبدي" الشعوب من "مُستعمري الخارج ـ و مُستعمري الداخل"

    • زائر 4 | 4:10 ص

      الاحتلال واحد و اسماؤه متعددة

      غريزة التسلط موجودة في كل البشر شرقيون و غربيون ، نحن الشرقيون كنا نسمي احتلالنا للشعوب الاوربية ( فتوحات ) و هم يسمون احتلالهم لنا ( إستعمار ) و الحال واحد .. و الشيء الجيد أن المستوى الحضاري للبشرية تقدم حيث ان اغلب اهل الارض لا يؤمنون بسبي نساء المهزوم إلا بعض المسلمين الذين توقفت لديهم ساعة الزمن عند النصوص القديمة.
      تحية لك استاذ محمد

    • زائر 3 | 3:51 ص

      ابداع

      شكرا اخوي محمد على المقال فهو تلخيص لفرة من الزمن والاحداث المليئة بالمتنقضات بين سياسات الزمن القديم و الحديث, و لا فرق بنهما.

    • زائر 2 | 1:28 ص

      الوعد

      وعد بلفور يكفي

اقرأ ايضاً