العدد 4533 - الثلثاء 03 فبراير 2015م الموافق 13 ربيع الثاني 1436هـ

أثينا... تحديات الديون والخضوع والكرامة

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

يصف الإعلام فوز حزب «سيريزا» اليساري في الانتخابات التشريعية اليونانية الأخيرة بـ «الثورة الانتخابية»، وبأنها «لحظة تاريخية» لليسار الأوروبي. ترى أهي فعلاً «ثورة انتخابية»؟ وإن كان، ما أسبابها؟ ومن يقف وراءها؟ وما تداعياتها على اليونان وعلى دول الاتحاد الأوروبي؟

في الحقيقة الحدث يتميز ببعدين، أولهما اقتصادي بامتياز كونه نتاج سياسات اقتصادية وحزمة إصلاحات وإجراءات تقشفية دعت إليها ألمانيا وفرضها الدائنون «الترويكا» –أي المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي- بحق اليونان؛ وثانيهما سياسي يعكس موقف اليونانيين تجاه الواقع الكارثي لهذه الخطط على اقتصادهم الذي يمر بحالة ركود، ما يعني رفضهم لسياسات التقشف التي خلفت ديناً ضخماً قدره 321.7 مليار يورو، بما يعادل 175 من إجمالي الناتج المحلي. أضف إليها معاناة الناس من زيادة الضرائب وبطالة لـ 1.5 مليون عاطل بنسبة تبلغ %50، وخفض للأجور بنسبة %25، وإفقار 4 ملايين يوناني خصوصاً وثلث السكان يعيشون تحت خط الفقر.

بالطبع الأرقام مفزعة وغير مسبوقة، لكن قضية الدين ليست طارئة... كيف؟

حال اليونان

التقارير تشير إلى أن بداية التاريخ السياسي لهذا الدَيْن حدثت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وما أعقبها من تضخم، حين قرّرت الولايات المتحدة في إطار «خطة مارشال»، صرف حوالي 400 مليون دولار كمساعدات عسكرية للنظام الملكي الذي تدعمه في حربه ضد الشيوعيين المتمردين، وللحيلولة دون تحوّل اليونان جهة المعسكر الاشتراكي، إضافةً إلى تأثير العولمة وفتح الأسواق وتشجيع الحكومات على الاقتراض الذي أدى إلى تدفق أموال القروض على اليونان من الاتحاد الأوروبي وانعكاساتها على النمو وتطوير البنى التحتية المموّلة بالدَيْن، وارتفاع متوسط دخل الأفراد في إطار نمط اقتصاد استهلاكي غير منتج، يعتمد على التمويل الخارجي، ماذا يعني هذا؟

يعني ببساطةٍ أن عجز اليونان عن دفع ديونه المتراكمة والتي تشكل اليوم قضية القضايا الساخنة بينه وبين «الترويكا»، ليست وليدة الساعة ولم تهبط فجأةً من السماء، حيث يشار تاريخياً إلى أن خزينة اليونان أعلنت إفلاسها وتوقّفت عن السداد أربع مرات في السنوات 1827 و1843 و1893 و1932. كما تردد أن حكوماتها لا تقدم معلومات دقيقة حول اقتصادها وحجم ديونها التي -وحسب إحصائيات أخرى- تصل إلى تريليون يورو، كذلك لا تلبي جميع شروط الاتحاد الأوروبي الذي يتهمها بتزوير الدخل الضريبي، وهدر التمويل الأوروبي وسوء استغلاله، إضافة إلى تضخم ميزانية الجيش.

المديونية وتمرد اليسار

حزب «سيريزا» اليساري المناهض لسياسة التقشف حصل على 36.3% من الأصوات، و149 مقعداً من أصل 300، وحتى يحصل على أغلبية برلمانية تحالف مع حزب «اليونانيين المستقلين» الفائز بـ 13 معقداً فوصلت مقاعده إلى 162، وتأهل لتشكيل الحكومة الجديدة.

وحزب «سيريزا» عبارة عن ائتلاف يضم تيارات وأحزاب يسارية متنوعة عرفت بـ «اليسار الراديكالي»، منها «الماوية» و«الخضر» وحزب «بوتامي» والحزب الشيوعي و«حزب الفجر الذهبي النازيون الجدد»، الذين أداروا حملتهم الانتخابية من السجون وحصلوا على 17 مقعداً وغيرهم. وقد حدّد الحزب برنامجه بأولوية إلغاء التقشف، والدعوة إلى عقد «مؤتمر أوروبي للدَّين» بغية شطب الدّين الخارجي الذي ترفض ألمانيا التفاوض حوله وتعتبره خطاً أحمر، لاسيما وهي تستحق %60 منه فيما تعود %16 منه لصندوق النقد الدولي والمصرف المركزي الأوروبي اللذين يؤكدان أيضاً استحالة شطب أي جزء من حصتهم من الناحية القانونية.

في هذا السياق، ثمة إشكاليات تطرحها نتائج الانتخابات، وهي تتعلق بماهية الدور الألماني في أوروبا، هنا ينوه عالم الاجتماع الألماني أولريش بيك إلى أن الوجه الحالي لأوروبا «أصبح ألمانياً» بامتياز، داعياً إلى إعادة إنتاج عقد اجتماعي أوروبي جديد يحجم من «الميركيافيلية» نسبة إلى سياسات المستشارة الألمانية انجيلا ميركل. فيما يحذّر صحافي فرنسي من قوة ألمانيا الجديدة التي ترتكز قوتها على «الاقتصاد وامتلاك هوامش المناورة عوضاً عن قوة الأسلحة».

إضافةً إلى ذلك ينتقد الباحث الفرنسي ايمانويل تود «طاعة» بلاده فرنسا لبرلين التي يصفها بـ «السلطوية» بسبب سعيها لتثبيت استقرار الاتحاد الأوروبي عبر اعتماد رؤية اقتصادية تقلص العجوزات إلى أقل من %3، والمديونية إلى ما دون %60 من إجمالي الناتج المحلي، وذلك استناداً إلى سياسات التقشف وخفض نسب الوظائف والمداخيل.

نتائج الانتخابات أفرزت مخاوف من تأثير الحدث على بلدان أوروبية أخرى كالبرتغال وأسبانيا وإيطاليا وقبرص التي تعاني من المشاكل نفسها، وتعتمد السياسات المالية والاقتصادية ذاتها وفقاً للرؤية الألمانية.

رئيس الوزراء اليوناني الجديد اليكسيس تسيبراس وحكومته دعوا إلى إعادة التفاوض على الديون مع الشركاء كأولوية من خلال خفض الديون وإنهاء سياسة التقشف للنهوض بالاقتصاد. وأكّد بأن حكومته «لا ترغب في قطيعة لها عواقب كارثية، لكنها غير مستعدة لمواصلة سياسة الخضوع»... فـ «الشعب يعاني ويطالب بالاحترام، وعلينا العمل دفاعاً عن كرامتنا». وفي خطوة أربكت أسواق المال أوقفت الحكومة خصخصة ميناء بيريوس الأكبر في اليونان، الذي تخطط شركة «كوسكو» الصينية العملاقة للشحن البحري لتحويله إلى مركز شحن بحري أوروبي جديد. من هنا إلى أين؟

تداعيات التمرد

إن أقصى ما يتوجس منه المراقبون يتمثل بخروج اليونان من منطقة اليورو، ذلك لأنه قد يؤدي إلى أزمة ثقة بين دول الاتحاد الأوروبي، ويدفع إلى خروج المستثمرين إلى أسواق أخرى، وعليه ستكون خسارة لأوروبا تقدر بـ 160 مليار يورو من السندات، وألمانيا وحدها ستخسر ما بين 60 - 80 مليار يورو، إضافةً إلى سحب الكثير من الشركات رؤوس أموالها من اليونان، ما قد يؤدي إلى إفلاس بعض المصارف، وبالتالي حدوث فوضى وأزمة مصرفية ليس في أوروبا وحدها وإنّما عالمياً قد تقود الاقتصاد حسب الخبراء إلى كساد اقتصادي كبير.

لهذا وذاك تشدّد بروكسل وبرلين على ضرورة التزام اليونان بتعهداتها، وتردّد ألمانيا بأنها لن ترضخ أو تتنازل لمطالب شطب الديون أو خفض نسب الفائدة وتمديد مدة السداد، كون ذلك يفتح عشّ الدبابير ويشجّع دولاً مشابهة كأسبانيا والبرتغال وغيرها للمطالبة نفسها، ما يساهم في حدوث زلزال وتمزّق في الاتحاد، خصوصاً مع غياب آلية واضحة لهذا الخروج المعقد.

ولم يغفل بعض المحللين الاقتصاديين في توجيه نقدهم اللاذع إلى أوروبا وتعاملها اللاأخلاقي مع اليونان، حين فرضت عليها نسبة فائدة %6 بدلاً من %1 فقط، ورأوا أن قروضها أدّت إلى انهيار مؤسسات اقتصادية يونانية صغيرة ومتوسطة، وخفضت من نسبة النمو إلى درجة الصفر، ورفعت الكساد إلى حدّه الأقصى، ودفعت إلى هجرة الكفاءات بأعداد كبيرة للخارج.

ختاماً وحتى تتضح الرؤية، ستقف اليونان على قدم وساق بانتظار الاجتماع المرتقب للدائنين (الترويكا) في 28 فبراير/ شباط الجاري، وستكون أمام موعد مفصلي لتقويم الإصلاحات التي نفّذتها مقابل منحها قرضاً مشروطاً بقيمة سبعة مليارات دولار، ومهما علا صوت الحكومة الجديدة وتشدّدت في مطالباتها بخفض الدين العام أو شطبه وتجاوز بعض الشروط بزيادة الحد الأدنى للأجور من 580 إلى 751 يورو وإلغاء عدد من الضرائب، فإن اليسار اليوناني ومعه الأوروبي اليوم، في مواجهة تحدٍ كبيرٍ وتفاعلات قد يتسع مداها إلى مواجهة حقيقية مع «النيوليبرالية الجديدة» ودائنيها، لاسيما مع ارتفاع وتيرة دعوات التمرد على قيود المديونية وخطط التقشف ومشاريع الخصخصة.

حقاً إنها النيوليبرالية الجديدة، وليدة الرأسمالية التي تحمل تناقضاتها بذاتها ولا غير.

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 4533 - الثلثاء 03 فبراير 2015م الموافق 13 ربيع الثاني 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً