العدد 4545 - الأحد 15 فبراير 2015م الموافق 25 ربيع الثاني 1436هـ

لا أحد يشبهك يا ابن الأرض

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

لا أحد يشبهك في أرضك. سحنتك من سمْرتها، وروحك تفيض بمائها ولو كان ملحاً أجاجاً. فيه العذوبة ترى. لا أحد يقاربك ممن يُجلب أو يستدعى لإرباك المعادلة على الأرض. الأرض تظل شاهدة لك لا عليك. شاهدة على تاريخها وتحولاتها وتضاريسها ونتوءاتها وطقسها المزاجي الذي تجتمع فيه الفصول في يوم واحد.

لا أحد يمكنه استنساخ روحك وإرادتك وصلابتك حين تلم الخطوب وتدلهمّ. ستقف ولو عاري اليدين دفاعاً عن روحها التي هي روحك، وعن وجودها الذي لا ينفصل عن وجودك.

ابن الحياة أنت من حياتها. كل وسامة هي فيك من الأرض. ويظل الطارئ على الأرض قبيحاً ولو حُفَّ بالشقرة والبياض. يظل قبيحاً وخصوصاً إذا حط رحاله لينازعك الروح والمكان ويشعر بالضجر حين لا يستأنف كتابة تاريخه المزوَّر كي يكون ابن الأرض عنوة. وتظل طارئة على الأرض أيضاً سمْرة مستحلبة ومُستجلبة كي تنازعك الحصة في الفطرة ووسامتك التي من جمالية المكان.

لا بياض يضاهي بياضك يا ابن الأرض، ولا سمرة بوهج ودفء سمرتك مهما ابتدعوا من الأسماء والسلالات وأشجار الأنساب التي لن يضيّع كثيرون أوقاتهم للتحقق من صحتها لامتلائها بالاختلاق والزيف والتصنُّع.

أنت العفوي في الأرض لأنها كذلك. لا تحب التكلُّف لأنك ابن البيت. لن تشعر بحرج التجوال في الصالة وغرفة النوم والفضاء الشحيح المتاح لك بأبسط ما يسترك دون خلاعة. بتلك الصرامة التي لا تحولك إلى وحش، أو فلتان يدخلك في عضوية أندية الماجنين.

تظل ابن هذه الأرض والدالّ عليها وإن حوصرت بالتعتيم والتزوير والتزييف والمحو الذي يطول كل شيء؛ بدءاً برفات أجدادك، وليس انتهاء بالمعتقد الذي يتم فك ارتباطه بالسماء تحت أكثر من ذريعة.

وإن بدوتَ غريباً في وطنك بعض الوقت، لن تظل كذلك كل الوقت. بمنطق السنن والتاريخ والأخلاق وكل المتواليات التي تحكم إيقاع السلوك البشري وحصانة الجغرافيا وأمن التاريخ تقول بذلك.

رسالتك الكبرى يا ابن هذه الأرض، أن تميّز الفارق بين الذين يأتون بسمات العابرين، ليصبحوا في غفلة منك أبناء هذه الأرض، وأصحاب الفصل في الخلاف والمصير. ولديهم من الوقاحة ما يكفي كي يطلبوا منك اعترافاً وتنازلاً عن تاريخك، واستعداداً لقطع صلتك بجذورك كي تثبت حسن النية تجاه إقامتهم الثقيلة على الروح والأرض وحتى الهواء!

لا تريد لهذه الحياة يا ابن الأرض أن تمضي بإملاء الشروط عليك، وأنت أهل الشرط في ما تملك وتنتمي ويمتد فيك من دم وأصالة جذر. لا تريد لها أن تكون محددة بسقف العابر الذي أقام، وآلة الموت التي ترافقه ليحدد الصالح للحياة والطالح أيضاً!

وكونك ابن العاطفة لا يعني ذلك أن تسهو عن المقيم الطارئ، مهما تذرّع بالفاقة وضيق ذات اليد، وأنت الذي صرت الوجه الآخر للفاقة مذ تحدث غرباء باسم رفاهيتك التي تراها وتسمعها في نشرات الأخبار المستفزة ولكنك خارج دائرة البسيط من احتياجك وضروراتك.

يا ابن هذه الأرض: لا توجد آلة فتك تنهي العلاقة العضوية بينك وبين ذاكرة هذه الأرض التي هي ذاكرتك. وفي تقاطع المصائر ستظل منحازاً إلى مصيرك الذي هو من مصير الأرض، ولا يهم بعد ذلك شكل النهايات التي ستكون لك بمثابة البداية. بداية أن تكون أنت الناطق الرسمي باسم الأرض التي فيها امتدادك وامتداد أجدادك، وامتداد المعنى المبهر في تلك الصلابة التي لا تعرف الهوان، ولا تستسلم للحديد والنار وهما يحاولان تطويع خياراتك.

ذرعت الهم والصبر والاحتساب والثبات لأنك تدافع عن الأعلى فيك. تلتمس حصانتك من القدرة على المواجهة وتعرية محاولات قذفك خارج النسب والجغرافية والتاريخ. ومع كل ذلك لا تحتاج إلى دليل أنك هنا، فالأصل لا يحتاج إلى تقديم دلائله إلى الطارئ عليه!

ومثلما أن كل فرد على هذه المعمورة يشبه الأرض التي منها جاء، لن تكون استثناءً من ذلك، وأنت الأولى بذلك الشبه الذي اختلطت فيه طينة الأرض بدمك الذي لا يمل من الانهمار؛ وعنائك في حيويته المذهلة، ولهذا وسواه: لا أحد يشبهك يا ابن هذه الأرض!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4545 - الأحد 15 فبراير 2015م الموافق 25 ربيع الثاني 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 14 | 2:39 م

      رائع

      الله عليك أستاذ جعفر روعة

    • زائر 10 | 2:38 م

      رائع

      الله عليك أستاذ جعفر روعة

    • زائر 9 | 5:51 ص

      ابن الارض

      صاحب الطينه الاصيله ، ملامح السماره التي تحرق الارض ، تغامر البحار وتبحث عن خيرات وطنها تبقى ثابته مهما كثرت عفرة الرمال. ثابته انت ابن الوطن لاتقف

    • زائر 8 | 5:44 ص

      الارض كالجسم

      الارض كالجسم فالجسم لا يقبل الأعضاء أو الأشياء الغريبه وان اجبر على تقبله بمختلف مضادات الرفض لهذا الغريب وكذلك الارض ستلفظ كل غريب عنها في النهاية حتما

    • زائر 7 | 3:51 ص

      الارض تتكلم

      ابن النخيل ستظل باسق
      أشم وعالي الهمة
      مقال رائع

    • زائر 6 | 1:47 ص

      زائر

      أنت العفوي في الأرض..!

    • زائر 5 | 1:07 ص

      نعم

      نعم فابن الارض هو هذا الذي تغوص جذوره في عمق التاريخ وما تلك الطفيليات الا كالحشرات سرعان ما تحال الى سلة المهملات بفعل البف باف فيسحقها كبس البلدية عما قريب

    • زائر 4 | 12:49 ص

      مقال جميل .. بابن الأرض

      مقالاتك متألقة دوما بمفردات أدبية سلسة وعبارات بديعة غاية في الروعة ممزوجة بواقعنا المر.. شكرا لك

    • زائر 2 | 11:31 م

      من اروع ماقرات

      من اروع المقالات هذا اليوم يبان الجمري ،، سلمت وسلمت اناملك يابن الاصل والفصل

اقرأ ايضاً