العدد 4557 - الجمعة 27 فبراير 2015م الموافق 08 جمادى الأولى 1436هـ

احذروا... فالعلم ليس في اللسان

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

يُعجَب كثيرون بأصحاب الألسن والمفوَّهِين. يتأثرون بهم، والأكثر أنهم يؤمنون بما يقولون ثم بما يفعلون متصورين أن تلك الألسن وأصحابها مثالٌ للقدوة والاتباع. هذا الأمر في حقيقته جدُّ خطير كونه يخالف مقتضيات العِلم والعقل والمنطق والدِّين حتى.

أستحضر هنا قولاً للإمام علي بن أبي طالب يقول فيه: «أوضعُ العلم ما وقف على اللّسان، وأرفعه ما ظهر في الجوارح والأركان». وهو قولٌ غايةٌ في الدقة وجدير بالتأمُّل فعلاً.

فكلمة وضيع هنا بليغة. فإن أريد بها الوضع فهي ضد الرفع. وإن أريد بها الوصف فالوَضِيعة هي الحَطِيطة. وإن أريد بها المنزلة فالوضِيع ضدّ الشريف، وإن أريد بها التفسير فالوَضِيع هو البُسْرُ الذي لم يَبْلُغْ كلُّه كما في القاموس.

من التاريخ نقرأ المدرستين اليونانيتين اللتين استعرتا في الموقف من اللسان. الأولى يتزعمها الخطيب المفوَّه غورغياس الذي كان يعتبر «الخطابة صنعة شريفة يتوصل بها الإنسان إلى الكمال» طبقاً لما كان يمتلكه من قدرة على الحديث والخطابة والتأثير في الملأ.

والمدرسة الثانية كان يقودها سقراط الذي كان يرى أنها «ليست صنعة شريفة في حد ذاتها إذا لم يكن الخطيب يقيم بها ما هو عدل ويدفع بها ما هو ظلم، ويقيم بها ما هو حسن ويدفع ما هو قبيح وسيء وشين»، طبقاً لما ذكره أفلاطون في كتابه عن أستاذه.

وكان سقراط قد دخل في حوارات مستفيضة مع أصحاب تلك المدرسة، وكتب عنها الكثير كي يُبيِّن موقفها القائم على «السفسطة» والخداع اللفظي. وكان يقول لبولوس وكاليكلس أحد عرابيهما عندما كان الأول يُشرِّع للحاكم الظالم، بأن خطابته ما هي إلاَّ «تهييج للأحاسيس»، ثم يبدأ في الحديث عن العقوبة والروح وعيوبها والظلم والمجازاة كما يذكر المؤرخون. وهي واحدة من أهم الحوارات التي دخلها سقراط في حياته الفلسفية.

الحقيقة، أن مسألة توظيف اللسان اتخذت أشكالاً عدة في التأثير على البشر. فهناك تأثير سياسي يقع على مجموع كبير من الناس، يجعلهم في متاهات المشاريع الفاشلة، التي تجنح بالأمة نحو التشرذم والتصارع، في الوقت الذي يغيب العقل، فيتداعى الدَّهماء ويُقدَّموا على أهل الحصافة والدراية ووزن الأمور فيقع البلاء والمصاب على الجميع.

وهناك تأثير ديني يدفع الكثير من الناس نحو ابتلاع وتصديق الخرافة والتطرف، وإلى الإيمان بما هو خارج عن سمت العقل والعقيدة الصحيحة والتسامح. وهو ما يؤدي على المدى المتوسط والبعيد إلى انفجار الأرض من تحت أرجل الأمة كما يحدث الآن في عالمنا الإسلامي، حيث ينزلق الآلاف في حروب طائفية سوداء تستعر على وقع الألسن.

إذاً، هذا اللسان لا يخرج منه العلم الحقيقي؛ لأن العلم الصحيح مرتبط بالأركان والجوارح. والمعروف أن الأفعال تُنسَب إلى الجوارح، وسُمّيت كذلك لأَنها تَكْتسب. فالقلب جارحة، واليد والعَيْن والرِجل كلها جوارح، وكلها مرتبطة بجوهر العلم فضلاً عن الأركان. وكانت العرب تقول لمن عمل شيئاً يُوبَّخ به: «يَداك أَوْكَتا وفُوكَ نَفَخَ» كما جاء.

عديدون اليوم، يُبهِرون جمعاً من الناس بألسنتهم فيتبعونهم، معتقدين بأنهم قدِّيسون وأصحاب رؤى ونظريات على أن بعضهم لا يُفرِّق حكماً عن حكم، ولا يملك سوى أن يُلوِّح بيدٍ ويضمُّ أخرى، ويستدير بجنبه مرة إلى ذات الشمال ومرة إلى ذات اليمين، خافضاً صوته حيناً ورافعاً إيَّاه في حين آخر. حركات تتمايل على أثير لسان لا قرار له.

وأمام ذلك التمثيل المتصنع وطراوة اللسان تستسلم العقول الضعيفة؛ لأنها لا تملك بوابة تمر منها الكلمات فتستأذن الدخول، حيث يسرع الكلام لقلوبهم، أسرع من النار إلى اليَراع. ولو تمعنا في كثير من صور الأتباع للزعامات لرأينا أن أكثرهم يتبعون ألسنة ما يهوون طرباً في سماعه من قصص وطوباويات وليس شيئاً آخر.

قبل نصف قرن من الآن، كَتَبَ عالِم اللسانيات الفرنسي البارع هنري لوفيغر كتابه الثمين: «اللسان والمجتمع» الذي تحدّث فيه بعمق عن تعقدات اللسان ومفارقاته ووضعيْه الثقافي والنظري وأبعاده. ورغم أنه كان يتناول مسألة اللسان عبر تناوله للعديد من المفردات كإيحاءات الكلمة والتقابل مع متغيِّر محتوى، إلاَّ أنه عالج أمر اللسان بعمق.

كان هنري لا يتجاوز فقط مسألة اللسان الذي لا يستند إلى علم جوارحي وحقائق، بل هو يناقشه من خلال وظيفته المزدوجة كما يقول وهي «وصفية وشرحية». فالمعرفة من وجهة نظره «تتقدم خطوة حاسمة عندما ينتقل العالِم من لفظة تعبّر عن بحثه وفكره الخاص إلى لفظة تدل على مفهوم يقع في مجموع مفاهيم». وهو كتاب جدير بأن يُقرأ.

وربما يصلح أن نذكر هنا أيضاً وقبل قفل الكلام، ما يجري اليوم مع هذه الموجة العارمة من التكنولوجيا، واستعار وسائل الإعلام، وتدفق الكلمات والصور منها، حيث أصبحت الكثير من البرامج التلفزيونية، قائمة على التقابل والنقاش المرتهن لمعركة نهايتها إما هزيمة هذا الضيف أو ذاك، دون الالتفات حتى لأخلاق النقاش فضلاً عن الوصول للقراءة العميقة للأفكار.

ولم تكن الحلقات النقاشية من ذلك الطراز يوماً دليلاً على موت فكرة وحياة أخرى، ولا صواب الأولى أو خطأ الثانية؛ لأن الأفكار أعمق من ساعة بث واحدة يكثر فيها الصراخ والمراء. وربما تذكرني هذه بمناظرة سيبويه والكسائي في حضرة يحي بن خالد البرمكي، والتي ظهر فيها الكسائي منتصراً وسيبويه مهزوماً بالحيلة والغيلة.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4557 - الجمعة 27 فبراير 2015م الموافق 08 جمادى الأولى 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 2:34 ص

      تجارب الامم السابقة

      اغلب الذين خدعوا الامم عبر التاريخ كانوا من اصحاب الافواه الكاذبة وفي المقابل اغلب العلماء غابوا عن التأثير لانهم منهمكين في التاليف والتحقيق والناس بطبيعتها تسمع اكثر مما تقرأ

    • زائر 2 | 11:10 م

      مقال جميل جداً 2

      إذن...فقدت العين والإذن اتجاههما وأصبحا عبدا للسان....لكن الواحد الأوحد للسان والعين والأذن هو العقل،فحينما يقال اعقلها وتوكل،فالمقصود هنا ان تتروى وتوازن الأمر حين التوكل،فالعقال عند العرب هو ما تعقل (تربط) به الدابة،وهو ما نضعه على رأسنا لنعقل به الغترة،فحينما يفقد العقل اتجاهه تصبح المستلمات العين والأذن واللسان في وهم ووهن. هناك مختبرات فعالة مهمتها كيفية التأثير على العقل لجعل من يحمله(الانسان) عبدا يفعل ما يؤمر به لتحطيم الشعوب....صباح الخير.

    • زائر 1 | 10:55 م

      مقال جميل...ابدعت مرة أخرى 1

      العين والأذن وربما بعض من المجاس الجلدية تخضع كلها للعقل،وما اللسان الا عبدا له،حينما انوي ان آكل الباجة التي اجيد طهيها اكتشفت انها مليئة بالشحم....فاللسان الخامل(حينما لا يستخدم) يصبح ثقيلا مشحما،فتلك الدابة لا تستخدمه الا لدفع الأكل للبلعوم لهضمه،وخروج الصوت الا فيما ندر. العين ترى ما تريد رؤيته وتغض الطرف ما لا تريده،وكذلك الأذن تسمع ما تريد سماعه وتصمخ بما لا تريده،وهذه مصيبة المصائب.

اقرأ ايضاً