العدد 4562 - الأربعاء 04 مارس 2015م الموافق 13 جمادى الأولى 1436هـ

هل لكلماتنا أوزان؟

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

نعم... إن لكلماتنا أوزاناً. لا أقصد من ذلك إيقاع الكلمات أو وزنها من قبيل: فَعَل، يَفْعَل وافْعَل، لكنني أقصد وزن معناها الحقيقي. فحين نقول: «يرحم» فإن وزن معناها يختلف عن وزن معنى «يشرب». فمدلول الرحمة يعني الوجود والغفران والسِّعَة وهي ضد العذاب، بينما مدلول الشُّرب لا يزيد من مجمله عن سلوك جسماني خاضع للغريزة.

من هنا، نستطيع أن نُعدِّد الكثير من الكلمات المتباينة الوزن في لغتنا واستعمالاتها في حياتنا، طبقاً لتلك النظرة. فمن بين أهم الكلمات وزناً هي كلمة: الإنصاف. ولو تمعن الواحد منا فيها لرأى أنها عظيمة المعنى والقصد. فإِنْصافُ المظلوم منها، وكذلك استِيفاؤه حقَّه فضلاً عن نظام العدل. والحقيقة، أن جوهر معنى أنصف الشيء هو: نَصَفَه، وبالتالي كأن الواحد منا حين يُنصِف فإنه يتقاسم الشيء مع الآخر مناصفة وهو المهم.

فحين يُؤدِّي الإنصاف إلى أنْ يتنازل المرء عن نصف ما يتوهَّم أن له مُلكاً عضوضاً، سواء في مالٍ أو حقيقة أو علم أو إحسان أو إمرَة فإنه بذلك، يُروِّض نفسه على الإقرار بالشراكَة مع الآخرين. وعندما يصل الأمر إلى هذه المرتبة من الترويض للنفس، فإن الطريق يأخذه بشكل طبيعي لأن يكون معتدلاً في سلوكه متوازناً في تفكيره، يعيش حياةً وسطاً. وحين يصل المرء إلى حياة الوسط فإنه يصبح على الجادَّة.

لذلك فإننا نرى حجم الإطراء الفلسفي والديني والاجتماعي الذي رافق مبدأ الإنصاف، حتى قيل بأنه أفضل الفضائل، وأفضل الشيم، وأعظم المثوبة، وزَيْن الإمرة، وشيمة الأشراف، وبه تستديم الأشياء، وتألف القلوب، ويوجب الائتلاف. بل وأنه كرم وعدل وراحة وزينة للرجل، فبالنصفة يكثر المواصلون والأولياء، وغيرها من الأقوال والإشارات.

وفي هذه اللحظة العصيبة من حياتنا، لو أن أحداً راقب مشاكلنا ليقف على أدوائنا السياسية والدينية والاجتماعية (وحتى العلمية) لرأى أنها تتلخص في هذه المسألة، حيث لا يوجد إنصافٌ لا في السياسة ولا في فهمنا للدين ولا في كسبنا للعلوم، وبالتالي يغيب عنا الاعتدال. وعندما يغيب عنا ذلك يخرب كل شيء، وكما قال الحكماء إنه «إذا تغير المزاج وزال عن الاعتدال بسبب من الأسباب زالت الحياة وانتقضت البنية واضمحلت الصورة».

كل الدول اليوم، ومعها مجتمعاتها تشكو من التطرف، الذي أولدَ لها الأسقام، وجَلَبَ لها الويلات لكنها تغفل عن أن أغلب البيئات التعليمية والثقافية والإعلامية هي المسئولة عن ذلك. فهي لا تتوخى الإنصاف في تطبيقها للبرامج والسياسات والمناهج الموضوعة، فترى المخرجَات والرأي العام أسيراً للنظرة الإلغائية: أبيض/ أسود، لأنها لم تتعلم ولم تتعوَّد على أن هناك مَنْ يشترك معها في الحياة والثروة والحقيقة.

لقد حَرَمْنا كثيرين في هذه الحياة من حق العيش الهانئ والسيرة الحسنة، وبَخَسناهم أشياءهم. حصل ذلك كله من الفرز الحاد والقطعي الذي نقوم به تجاه الآخرين. حتى مصير البشر الأخروي: الجنة والنار، تملَّك ناصيته بعض الناس زوراً، في حين أنه ليس حقاً لهم، فتراهم يعطون نهايات مبرمة لهؤلاء دون هؤلاء، معيدين للأذهان السياسات القروسطية. هذا الأمر أفقدنا لذة العيش المشترك مع الآخر، في الوقت الذي كان يمكن لنا أن نكسب كثيرين بدل أن نفقدهم، فتكتمل لوحة الحياة بأفكار مختلفة وخلاقة في آن.

عندما أقرأ في التاريخ، وفي سِيَر الأمم الأخرى، أجِد نفسي مَدِيناً لكثير منها، حتى ولو كانت تُوسَم بالبدائية؛ لأنها في حقيقة الأمر شكَّلت وعينا في هذه اللحظة، وجعلتنا نتنفس واقعنا من خلالها، وأن نضع حجراً على حجر إدراكاً منا للمفاهيم المتراكمة، التي جعلت الحضارة تبدأ من عندهم وتستمر حتى يومنا لتحملنا معها في إحدى محطاتها. فنحن لسنا أول مَنْ أوقد النار، ولا أول مَنْ أذاب الحديد، ولا أول مَنْ فَهِم الفلك.

نعم... يغيب عنا الإنصاف لأننا لم نشهد عصور «البناء الصلب» للبشرية، وبالتالي نحن نتكبَّر ولا نعدل ولا نعتدل حتى. نحن لم نشهد العصر الحجري القديم الأعلى حين لجأ الإنسان إلى إعادة إنتاج حياته المدنية والعسكرية من خلال أقل الأدوات توفراً، ونجح في ذلك نجاحاً باهراً، يفوق بعشرات الأضعاف تفوقنا اليوم، بناءً على معطيات الزمن.

لقد كانت «الأوتاد والجلد والفراء والشعر والريش والمخالب والحوافر والقرون» من المنتجات «الإضافية المتبقية من طعامهم اليومي». لقد استُخدِم كل شيء «في تطور الإنسان ونمو المهارات في الصناعة اليدوية» كما جاء في أصول الحضارة. لقد أنتَجَ لنا أهل الكهوف ما لا نقوى اليوم على إنتاجه، وعمروا مناطق واسعة من الأرض، تبدأ من الصين الشمالية حتى جنوب شرق آسيا، بل وبورما والهند وحتى جنوب السند كما ذكر ولتر فيرسرفس.

خلاصة القول أن وزن كلمة «الإنصاف» تفوق غيرها من الكلمات بأضعاف. ووزن كلمة «الاعتدال» مثلها؛ لأنها نهاية لطريق بدأ خطوته الأولى من الإنصاف ذاته. وعلينا جميعاً أن ندرك، بأن تلك المفردتين، سبيلان أكيدان لحلاوة الاستمتاع بفعل الخير، ومرارة تلمُّظ فعل الشر، فمن لا يُنصف فهو يظلم، ومَنْ لا يعتدل فهو يقسو. وكما ذكر ابن الأثير، أن عبدالملك بن مروان قال لسعيد بن المسَيَّب: يا أبا محمد، صرتُ أعملُ الخيرَ فلا أسَرّ به، وأعملُ الشَّرَ فلا أساء به. فقالَ له سعيد: الآن تكاملَ فيكَ موتُ القلب.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4562 - الأربعاء 04 مارس 2015م الموافق 13 جمادى الأولى 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 2:20 ص

      قال كونفوشيوس من يرى الصواب ولا يفعله فهو جبان

      قول الكلام عندنا لا يعني بالضرورة معناه،فالمعروف لدى سكان الجزر الثرثرة بأمور كثيرة واللف والدوران بدون هدف واضح في سياق المعنى....الصواب عند البعض هو الإمعان في الخطأ ،وهذا مؤشر يدخل في سياق الانفصام الذاتي عن كل مبادئ البشرية السمحة التي تضمنها المنطق السليم،فإذا كان ديننا السمح قد جسد ذلك فلما هم لا يفقهون؟ النزوع للمبادئ الوحشية لزمن قبل الجاهلية أقصى هؤلاء عن ادراك انهم عدم و نكرة.

    • زائر 1 | 12:50 ص

      يقول الامام الصادق

      من انصف الناس من نفسه رضي به حكما لغيره

اقرأ ايضاً