العدد 4584 - الخميس 26 مارس 2015م الموافق 05 جمادى الآخرة 1436هـ

أين يقف المشروع النهضوي العربي الآن؟

يوسف مكي comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

المشروع النهضوي العربي، هو استجابة لواقع موضوعي، ووهن بطبيعة المرحلة التي تعايشها الأمة. وذلك يعني أنه خاضع لقانون الاستجابة والتحدي. فحين مقارعة الاستعمار العثماني، حمل مشروع النهضة عنصرين لازمين آنذاك لتأكيد الهوية العربية، هما الخلاص من ربقة الهيمنة العثمانية، والدفع بحركة التنوير. ولم يحمل المشروع آنذاك أية أبعاد اجتماعية.

أخذ المشروع النهضوي، في تلك المرحلة شكلاً آخر، فالقوى التي اضطلعت بقيادته عبّرت عن طبيعة الانتقال، من الاقتصاد الزراعي المستقل بذاته، إلى مرحلة الالتحاق بالاقتصاد الإمبريالي، بصيغة التابع والوسيط. وقد أسهم ذلك في انهيار الصناعات المحلية، نتيجة تناقص التراكم المحلي، وانخفاض فرص العمل والإنتاج. والنتيجة هي غياب طبقة أرباب عمل.

ولأن الوجود لا يقبل الفراغ، اضطلعت الطبقة المتوسطة بقيادة المشروع النهضوي، ومن الطبيعي أن يكون لذلك إسقاطاته على المشروع، فتفرض توجهاتها وتقاليدها وأنماط سلوكها عليه. فهذه الطبقة، وكما توحي تشكيلاتها، مشايخ وحرفيون وبقايا عالم تجاري، هي تشكيل غريب ومشوه وغير متجانس لعناصر تتداخل مصالحها بالضرورة مع مصالح كبار الملاك، المتحالفين مع الاحتكارات الأجنبية. وقد ترك هذا التناقض بين مصالح هذه العناصر وبين قيادتها للمشروع النهضوي بصماته الواضحة على مسيرته.

إن موقعها في السلّم الاجتماعي، جعل مواقفها عرضةً للمراوحة من الأسفل إلى الأعلى، والعكس صحيح. فهي ضد الاحتلال التركي، وهي مع الثقافة التقليدية التي ترفض الاستعمار، لكنها تتصل سراً بالمندوب السامي البريطاني بالقاهرة مكماهون لمساعدتها على نيل الاستقلال.

لكن ما بعد الحرب العالمية الثانية، شهد قيام أحزاب قومية ضمت شباناً يافعين، من مختلف مكونات النسيج الاجتماعي العربي، زاوجت بين المطالب الوطنية، وبين مطلب العدل الاجتماعي. لكنها بقيت أسيرة واقعها الموضوعي، فنضالها ضد الاستعمار، جعلها تحمل موقفاً عدائياً من منظومة قيمه. أصبح تبني الديمقراطية شبهة، بسبب احتدام المواجهة مع الغرب، الذي صنع الكيان الصهيوني، كإسفين في خاصرة المشروع النهضوي العربي.

وخلال هذه الحقبة، التي استمرت حتى نهاية الستينيات، حلّق هذا المشروع بجناح واحد هو العدالة الاجتماعية، على الرغم من طرح شعاري الوحدة والحرية، اللذين بقيا بعيدين عن واقع التطبيق.

وإذا ما عدنا إلى المسألة المطروحة: هل يوجد مشروع نهضوي عربي محدد الملامح واضح الأهداف؟ فإن الجواب هو بنعم ولا، في آنٍ معاً. الجواب بالنفي هو تسليمٌ بالسكون، وبأن المشروع لم يعد حاجة موضوعية للناس المقيمين على البقعة الجغرافية المعروفة بالوطن العربي، وذلك ما لا يمكن التسليم به.

لقد تكيف المشروع، مع الواقع الموضوعي المعاش، مستثمراً التحولات الدولية، وما يجري في الوطن العربي، من منازلة ملحمية مع الاستعمار، لتحقيق أهدافه. وكانت الحرب الباردة، التي اندلعت بعد الحرب العالمية الثانية، وتربع السوفيات والأميركيين على عرش الهيمنة الدولية، فرصةً أتيحت لقوى التحرر في العالم، ومن ضمنه الوطن العربي للإمساك بزمام مقاديرها.

كانت مرحلة الخمسينيات، مرحلة انتقالٍ في مراكز القوى العالمية. فالاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة فرضا نفسيهما، من خلال قوتهما العسكرية، وامتلاكهما لسلاح الرعب النووي، كقوتين، لا تضاهيهما أية قوة فوق كوكبنا الأرضي. عمل الروس على توسيع دوائرهم الحيوية من خلال نصرة حركات التحرر الوطني في العالم الثالث، ونشر الفكر الماركسي في المعمورة. أما الأميركيون، فاعتمدوا منطق إزاحة الاستعمار التقليدي. وباعتماد حزب العمال البريطاني، في أواخر الستينيات مبدأ الانسحاب من شرق السويس، اكتملت سياسة الإزاحة التي اعتمدتها أميركا.

حقق المشروع النهضوي، في ظل تخلخل النظام العالمي في أوائل الخمسينيات حتى نهاية الستينيات، جزءاً مهماً من أهدافه، وفقاً لسياقاته النظرية في تلك الحقبة. فأنجز مشروع الإصلاح الزراعي وتوزيع الأراضي على الفلاحين في مصر، وتحقيق إصلاحات اجتماعية، وكسر احتكار السلاح، وأمّمت قناة السويس، وتمت مواجهة العدوان الثلاثي العام 1956، وشيّد السد العالي، وتحقّقت الوحدة بين سورية ومصر. وحدثت تغيرات وطنية في العراق واليمن، وتفجرت ثورات مسلحة في الجزائر واليمن الجنوبي. وحصلت تونس على استقلالها، وطرد الاستعمار الفرنسي من قاعدة بنزرت في تونس، وحصلت معظم البلدان العربية على استقلالها السياسي .

مثلت نكسة الخامس من يونيو/ حزيران 1967، نهاية مرحلة الصعود في مشروع النهضة العربي، حيث تقهقرت حركة القومية العربية، وبدأ العد التنازلي للإمبراطورية السوفياتية. وكانت محطة اختمار جديد للمشروع النهضوي العربي، في صيغة جديدة، تأخذ بعين الاعتبار حقائق العصر، وضرورة التماهي مع حقائق العصر، ومبدأ تجديد الفكر.

منذ مطالع السبعينيات، ولثلاثة عقود، تم انتقال استراتيجي، على صعيد الأنظمة العربية، في طبيعة الصراع العربي مع الصهاينة. تحوّل الصراع من طابعه الحضاري، كصراع وجود إلى مجرد صراع حدود ومناطق متنازع عليها. وقد غيّبت السياسات الجديدة، التلازم الجدلي بين اتفاقية «سايكس بيكو» ووعد «بلفور»، باعتبار الأولى هي التكريس العملي للتجزئة ولغياب التنمية، والآخر من خلاله اغتصابه لفلسطين فإنه وضع إسفيناً في مشروع الوحدة.

وقد كان من نتائج مرحلة الانتقال هذه توقيع اتفاقيات كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة، وجميعها كرست المفهوم الجديد لطبيعة الصراع مع العدو. لكن ذلك لم يخل من ممانعة مثّلتها مقاومة هنا وهناك للعدو على الجبهتين الفلسطينية واللبنانية، وكان الأبرز في خط الممانعة هو اندلاع انتفاضة أطفال الحجارة.

ومع مطالع هذا القرن نشط مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، في إعادة الاعتبار للمشروع النهضوي العربي، في ندوة فكرية رئيسية شارك فيها خمسة وتسعون مفكراً، عقدت بمدينة فاس بالمغرب، وحظيت برعاية العاهل المغربي، . وانبثق عن الندوة مشروع نهضوي جديد، زاوج بين العدل والحرية، حيث اعتبر أهمية تحليق المشروع النهضوي بجناحين لا غنى عنهما، هما العدل الاجتماعي والديمقراطية .

أين يقف المشروع النهضوي الآن؟ وما هي أهم عناصره؟ وشكل المعوقات التي يواجهها، مواضيع ستكون عناوين للمناقشة في الحديث المقبل بإذن الله.

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "

العدد 4584 - الخميس 26 مارس 2015م الموافق 05 جمادى الآخرة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً