العدد 4608 - الأحد 19 أبريل 2015م الموافق 29 جمادى الآخرة 1436هـ

كيف سنتعافى بالانتحار السياسي في الأداء؟

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

كيف لأمةٍ أن تتجاوز عثراتها، وأزماتها، ومآزقها، ومشكلاتها، وخيباتها، وفشلها، وانشقاقها، وانحدارها، وهي تحارب الكلمة والرأي الذي يُنبِّهها إلى كل ذلك، ويحذِّر من الاستمرار فيه؟ لأن لا أحد سيخرج بفائدة حقيقية من وراء ذلك: الصمت، وصمّ الآذان.

بما نشهد اليوم؛ لنبدأ التساؤلات بما هو مفترضٌ أن يكون الجامع المشترك بيننا، ولكنه بالنظر إلى الواقع على الأرض ليس كذلك!

كيف يمكن لنا أن نتحدَّث عن إسلام واحد جامع، في قِيَمه ومبادئه المشتركة التي تخاطب الإنسان، وجاءت من أجل الإنسان، وإعمار الأرض، وتفجير طاقات سكَّانها، (لا تفجير البشر وما ينجزون) وتوفير الظروف والمناخات الملائمة لكل ذلك، ونحن نشهد النقيض من كل ذلك؟ نشهد أكثر من إسلام في أكثر من بلد، وشارع وبيت ومكتب وزقاق ومسجد وجامع وجامعة ومدرسة وحتى في فرق المنتخبات الوطنية؟

كيف يمكن لنا أن نتحدَّث عن الإسلام الذي نعرف، وعرفه آباؤنا وأجدادنا، وكيف نقدِّمه إلى الناس وإلى العالم، وقد غادر قواعده بعد اختطافه، وتوظيف تفسيره لصالح كيانات ومراكز قوى، ممعناً في همجية الأداء (عبْر الوكلاء الذين يتحدَّثون باسمه) والقتل والذبح والتفجير والتفخيخ والهدم والسبي والغلظة والجلافة والتحريض على الإبادات، والتخلُّص من المختلف تقرُّباً إلى الله والإسلام، ممن لا يعتمد نسخة الإسلام التي يُراد تعميمها وهيمنتها، كي يتسنى لمن يقفون وراء ذلك «الإسلام المُختطف» الهمجيِّ الذي نشهد ممارساته، أن يحتفظوا بهيمنتهم على الناس، ووعيهم، وإدخالهم ضمن ملكيات تعبث بمصير البشر والحَجَر؟

كيف لأمةٍ تفرَّقت وصارت شِيَعاً «كل حزب بما لديهم فرحون»، أن تتحدَّث عن مكان لها تحت الشمس، وهي في بيئات كلها طوامير وحُفر ومهاوٍ وانحدارات؟

كيف يمكن لهذا الجزء من العالم أن يتعافى وسط غرور ووهم الحقيقة التي يمتلكها ويحتكرها؟ وكيف له أن يجاري ما ومن حوله، ويستوعب منطق الصيرورة؛ فيما أحزابه وممثلوه على انسجام مع الوهْم والأخطاء الناجمة عن ذلك الوهم؛ استبعاداً لمراجعة الأداء؛ وقمعاً وتخويناً لكل صاحب محاولة في تبيان عوار الأداء والشطح، وما يتجاوز ذلك بكثير: الانتحار السياسي!

متى ما أصبحت المراجعة ورطةً لدى أي فصيل سياسي أو دولة أو أمة أو جماعة أو ثلة أو حزب أو جمعية؛ ومتى ما تم تجنُّبها والهروب منها؛ فاعلمْ أن أولئك لا يبتغون صلاحاً للبلاد ولا للعباد، وإنما يبحثون عمَّا يظنون أنه صلاحهم، ويتمسكُّون به ولو أُحرق الحرث والنسل!

التعامل مع النقد الذي يمكن أن يبرز من الشارع الذي يحتضن ذلك الفصيل أو الدولة أو الأمة أو الجماعة أو الثلة أو الحزب أو الجمعية، باعتباره استهدافاً لها؛ ومحاولة لإعاقة دورها، هو أكثر من محض هراء. هو غرور في أسوأ درجاته. وهو في النهاية مؤشر على قصور استيعاب أن الحراك الإنساني إذا أحيط بمن يتفق معه في طول المسارات التي يقطعها؛ مستبعداً المغايرين؛ لن ينجو من حفرة هنا؛ وفخ هناك؛ ونهاية مأسوية هنالك!

للشارع في كل دول الدنيا وزنه؛ لكن الشارع بكل حماسه واندفاعه وحرْقته وانكشافه أمام أداء الذين يمثلونه؛ ممن يجدون في المراجعة تخويناً لها؛ وتسفيهاً ونيْلاً منها، سيزيد من حرقة ذلك الشارع وانكشافه وكفره بمن يحاولون جره إلى الأسوأ من المجهول؛ وما دام ذلك الفصيل أو الدولة أو الأمة أو الجماعة أو الثلة أو الحزب أو الجمعية، على ذلك المستوى من الثقة والإصابة بالحساسية المفرطة جرَّاء النقد والتذكير بضرورة المراجعة؛ عليها أن تبحث عن مكان قصيِّ وتهز جذع النخلة التي تختار؛ ولكن الرطب الجنيَّ لن يتساقط منها؛ إذ في انتظارها الحشَف والشوك والمُرُّ الذي سيطول خلائق!

ومثلما تدفع الشعوب ثمن الإصرار على المضي في السياسات التي تتخذها الحكومات والأنظمة، وتمضي بها حتى آخر الشوط بمعزل عن حق الشعوب تلك في رأيها، ودون مراجعة لتلك السياسات وإنْ جرَّت الويلات والكوارث وتشظِّي الأمة، تدفع جماهير بعض الأحزاب والجمعيات ثمن الإصرار على المواقف التي تتخذها، والخيارات التي تنحاز إليها، ورفضها للمراجعة أو المكابرة في اتخاذها، بغضِّ النظر عن التحوّلات والتغيُّرات التي تنشأ بطبيعة الزمن، وبطبيعة الحاجة إلى إعادة ترتيب القناعات؛ لا المبادئ. ذلك الخلط بينهما هو الذي يؤدِّي بكثير من الأداءات السياسية إلى التعنُّت، وإغلاق الأفق أمام استجواب ومساءلة وفحص الممارسة. ومع إغلاق مثل تلك المراجعة، والاستمرار في ذلك لا يكون الفصيل أو الدولة أو الأمة أو الجماعة أو الثلة أو الحزب أو الجمعية إلا مصادر جذب للشقاء والفشل، وإعادة إنتاج الأخطاء تلك، وتحوُّلها إلى سلع رائجة، لن يسفر عنها إلا البوار.

وإلى موضوع التساؤل الذي تصدَّر مطلع هذه الكتابة، نعود. علينا أن نعي وندرك أن الإسلام الذي يقدَّم اليوم إلى العالم بالممارسة الوحشية التي هي في العمق من الصورة النمطية لدى الآخر، ليس هو الذي بحاجةٍ إلى مثل تلك المراجعة؛ بل الذين اختطفوه وتلاعبوا بمنهجياته وروحه وقيمه ومبادئه السمحة، والتي هي على النقيض تماماً من أولئك الذين يُشهرونه ويلوِّحون به إنقاذاً للعالم؛ بينما هم يقودون العالم إلى محرقة كونية ربما لم يعرف لها مثيل في فترة ما قبل وما بعد الحروب الكونية!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4608 - الأحد 19 أبريل 2015م الموافق 29 جمادى الآخرة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً