العدد 4613 - الجمعة 24 أبريل 2015م الموافق 05 رجب 1436هـ

مقابة القديمة: آثار الجامع العتيق والذاكرة الشعبية

آثار القرية الإسلامية في جنوب باربار (الصورة معروضة في متحف البحرين)
آثار القرية الإسلامية في جنوب باربار (الصورة معروضة في متحف البحرين)

قرية مقابة، إحدى القرى القديمة والعريقة، والتي خرج منها أعلام شاع صيتهم في الوسط الديني في حقبة من الزمن. ومنهم من وصل لرتبة قاضي القضاة أو شيخ الإسلام في البحرين، وهي بمثابة القيادة الدينية في البحرين. إن وجود مثل هذه القيادات الدينية في هذه القرية يستلزم وجود مدرسة فقهية عريقة بها، وفي حال وجدت مثل هذه المدرسة، فإنه من المرجح أن نبحث عن آثارها خارج حدود القرية الحالية؛ حيث إن قرية مقابة القديمة ليست هي مقابة الحالية، هذا هو المفهوم الذي توارثه سكان قرية مقابة الحالية من أسلافهم. أحداث وروايات عديدة كانت تروى عن مقابة القديمة، وكثير منها أصبح في طي النسيان. ما مدى صحة هذه الروايات؟، وهل تفيدنا الآثار في تأكيد جزء منها؟.

إن عمليات تطوير الريف الحديثة، والتي بدأت منذ بداية القرن العشرين، أدت لضياع العديد من آثار الريف القديمة، وبالخصوص عملية رصف الشوارع. وفيما يخص المناطق المطلة على شارع البديع، فإن رصف شارع البديع في العام 1937م قد أضاع الكثير من آثار هذه القرى. على سبيل المثال، قرية أبومحارة، كانت تقع بين قريتي القدم والمقشع، وقد عثر على جزء من آثار هذه القرية جنوب قرية المقشع. أما غالبية آثارها فإنها إما أزيلت أو دفنت تحت شارع البديع. كانت المناطق المطلة على شارع البديع، ومازال بعضها، مناطق خصبة كثيفة الزراعة، وكانت المزارع متداخلة. لم تكن هناك طرقات تحدد حدود القرى، بل كانت هناك ممرات ضيقة. وكانت تلك القرى متداخلة، وكانت لها مضاعن (سكن مؤقت في الصيف)، إضافة للمواقع الأساسية للقرى. وقد كانت مزارع القرى التي تقع الآن على جنوب شارع البديع (المرخ، ومقابة، وأبوصيبع) تمتد إلى القرى المقابلة لها. وكانت سواقي العيون الطبيعية التي توجد في تلك المناطق تعبر منها وتمر خلال القرى المقابلة لها، ثم تتحول إلى منجيات تصب في ساحل البحر الشمالي.

إن الذاكرة الشعبية عند العديد من كبار السن تحتفظ بصورة معينة لقرية مقابة القديمة قبل قرنين من الزمان. الصورة المرسومة تروي أن قرية مقابة القديمة كانت تقع جنوب قرية باربار الحالية، وكانت مقبرتهم هناك، وتمتد تلك المقبرة جنوباً حتى تنتهي بالمسجد الذي يعرف حالياً باسم مسجد المدرسة، والذي لم يتبق منه إلا آثار أساسات جدرانه المدفونة تحت تلة من الرمال.

آثار القرية العتيقة

في العام 1980م، وعندما كانت البعثة الفرنسية تقوم بأعمال التنقيب في تلال قرية جنوسان، والتي تعود للحقبة الهلنستية في البحرين، تم اكتشاف تلال أخرى في جنوب قرية باربار. اعتقدت البعثة الفرنسية، في بادئ الأمر، أن هذه التلال تمثل امتداداً لتلال قرية جنوسان، وفي العام 1981م تم اتخاذ القرار بالتنقيب في جنوب باربار. وعندما بدأوا بالتنقيب، تبين لهم أن الموقع عبارة عن موقع استيطان يعود للحقبة الإسلامية المتوسطة، وهو عبارة عن قرية، لا يعرف بالتحديد امتداد حدودها، وبها آثار لمسجد ضخم، ويتبع لهذا المسجد مبان صغيرة تحيط به، وهي مبان لم تتحقق البعثة الفرنسية من أهميتها (Salles et. al. 1983). ويشير تقرير البعثة الفرنسية، إلى أن القرية هجرت في قرابة نهاية القرن الثامن عشر بعد أن تعرضت القرية بأكملها لحريق كبير (Salles et. al. 1983). في واقع الأمر، أن هذه التلال هي جزء من الموقع المزعوم لقرية مقابة القديمة، ويقع بالقرب منه مقبرة قديمة، لم تعد مستخدمة كمقبرة، ويعتبرها سكان مقابة مقبرة مقابة القديمة والتي دفن بها أسلافهم. ويلاحظ أن تاريخ هجرة السكان من هذه المنطقة يتطابق تقريباً مع الرواية الشعبية المذكورة.

كذلك، وبحسب تقرير البعثة الفرنسية، فإن المسجد الذي عثر عليه في هذا الموقع، يعود بناؤه للقرن الثاني عشر الميلادي، وقد مر بعدد من مراحل التطوير؛ حيث بدأ بناء المسجد كغرفة صلاة صغيرة، وبعدها تمت توسعته على مراحل، وتمت إضافة مبان أخرى تابعة له (Salles et. al. 1983). إن مثل هذه المباني ليست بالغريبة على البحرين، فقد كانت تمثل مراكز تعليمية أو مدارس فقهية، ويبدو من حجم هذا الموقع، مدى أهميته، فربما كانت هذه المدرسة إحدى المدارس الفقهية المركزية في القرن السابع عشر الميلادي. فإن صحت الرواية الشعبية، أن هذا الموقع هو قرية مقابة القديمة، فإن هذا المسجد والمباني التابعة له هو إحدى أهم مدارس مقابة الفقهية القديمة. يذكر، أنه في القرن السابع عشر الميلادي حدث تطور مهم للمدارس الفقهية في البحرين، وظهرت مراكز معينة ذات ثقل في تلك الحقبة. ويبدو أنه كان هناك نوع من الانتقائية في تطوير المدارس الفقهية.

السيطرة الصفوية وتنامي المراكز الأصولية

سيطرت الدولة الصفوية على البحرين في بداية القرن السابع عشر (قرابة 1602م)، وبدأ، حينها، الدور الفعال للعلماء الشيعة في إدارة الدولة في البحرين؛ حيث شجع الصفويون قيام المؤسسات الدينية، وكانوا يقدمون دعماً كبيراً للعلماء والمساجد، وبدأ يتمايز دور علماء الدين عن مجرد كونهم شخصيات دينية معروفة إلى كونهم محترفين بمهنة الإرشاد الديني. هذا، وقد استحدث الصفويون مؤسسة دينية مضبوطة على نموذج المؤسسة الدينية الإيرانية، اعتمدت النظام المراتبي الديني نفسه المعمول به في إيران والذي يعتمد على وجود شيخ الإسلام إضافة للحاكم السياسي (إبراهيم 1995، الواحة العدد الثاني) و(Cole 1987).

بصورة عامة، حدث تطور في المدارس الفقهية في البحرين، من حيث البناء والأدوار التي تلعبها، ولكن في الوقت نفسه ظهر تمايز في عمليات الدعم والتطور لهذه المدارس، حيث إن الصفويين انتهجوا الخط الأصولي وبذلك تم تعزيز هذا الخط في البحرين، وظهرت مراكز أساسية في البحرين ذات قوى تميزها عن غيرها. وقد تشكلت هذه المركزية أساساً على بنية سياسية، فقد أصبحت كل من منطقة البلاد القديم وجدحفص من المراكز الأساسية للسلطة الصفوية ومعقلاً للاتجاه الأصولي. فكان تولي الرئاسة الدينية، والاضطلاع بالأمور الحسبية والقضاء وإمامة الجمعة، يتطلب انتقال علماء الدين الأصوليين إلى السكن بالقرب من المركز الأساسي وهو مسجد الخميس (Cole 1987) و(إبراهيم 1995، الواحة العدد الثاني) و(حسين 2010، ص 78).

ومن المناطق التي أصبحت مراكز ثانوية ذات ثقل في الدولة، بسبب نهجها الخط الأصولي، مقابة والقدم وأبوصيبع. فيلاحظ أن أول من تبوأ منصب القيادة الدينية في عهد الدولة الصفوية من قرية مقابة وهو الشيخ محمد بن الحسن بن رجب المقابي أصلاً الرويسي مسكناً. وفي فترات لاحقة، تبوأ هذا المنصب شخصيتان أخريان من قرية مقابة وهما: الشيخ محمد بن سليمان المقابي والشيخ محمد بن علي بن عبدالنبي المقابي (البستاني 1998).

بالمقابل حدث نوع من الإهمال للمدارس الفقهية التي تنتمي للخط الإخباري؛ وربما هذا يعلل سبب عدم وجود ذكر مهم لمدارس فقهية في عدد من المناطق، مثل فاران، والجنبية، وسار، والدراز، والمرخ والشاخورة وغيرها. هناك مصادر تشير بوضوح لوجود مدارس وأعلام دينية في هذه القرى منذ القرن السادس عشر الميلادي، إلا إن أسماءهم نادرة الذكر، ومن المرجح أن يكون منهجية الخط التي تتبعه له تأثير في تلك الحقبة.

الخاتمة

باختصار، تشير المصادر لوجود أهمية لقرية مقابة وبالخصوص في القرن السابع عشر الميلادي، وتشير الآثار لوجود مراكز فقهية متعددة وكبيرة الحجم نسبياً، كمسجد المدرسة وآثار المسجد وتوابعه في جنوب باربار، وهذا يتناسب مع الثقل النوعي للشخصيات البارزة التي ظهرت في قرية مقابة والتي تبوأ عدد منها أعلى منصب ديني في الدولة. كذلك القرى المحيطة بها كان لها ثقل، وكان بها مدارس فقهية، كقرية أبوصيبع وغيرها من القرى التي ما عاد لها وجود في المنطقة كالرويس وهو ما سوف نتطرق له في الحلقات المقبلة.

العدد 4613 - الجمعة 24 أبريل 2015م الموافق 05 رجب 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً