العدد 4613 - الجمعة 24 أبريل 2015م الموافق 05 رجب 1436هـ

المرأة ورعاية الأبقار

قال غاندي «إن البقرة هي أم الملايين من الهنود، وحمايتها تعني حماية كل المخلوقات»، ويُعتقد أن البقرة الأم أفضل من الأم التي ولدتنا في عدة نواحٍ؛ فالبقرة في الهندوسية تعتبر مقدسة ويجب حمايتها وينظر لها على أنها أم ورمز الوفرة لصفاتها المعطاءة من توفير اللبن ومشتقاته ولها مكانة محترمة في المجتمع الهندي حيث يحرم أكل لحمها. تتجول الأبقار في شوارع الهند وحتى في شوارع دلهي. ولقدسيتها يعتبر إعداد وتقديم وجبة الطعام لها قبل إفطار الناس جالباً للحظ، وقد يسجن الشخص الذي يقتل أو يؤذي بقرة في الأماكن التي يحرم فيها ذبحها.

تتحدث أمي عن الحظيرة التي كانت في منزلهم في فريق المخارقة بالمنامة، تقول «كان عمري آنذاك خمسة عشر عاماً، كنت أراقب «أم علي» والتي نسمّيها (أم علِيُّوه) وهي امرأة تعمل لدى أمي شيخة منذ سنوات في تربية البقر وحلبها وبيع الحليب على الزبائن الذين كان أكثرهم من الجيران، إلا أنها كانت تقوم في بعض الأحيان بخلط الحليب بالماء وعلى الخصوص إذا كان منتج الحليب قليلاً». تقول أمي إنها كانت تعترض على فعلها ويدفعها ذلك في العديد من المرات بسكب الحليب في حوض غسيل الأواني، حيث إن هذا العمل غير لائق.

في تلك الأيام الخوالي كانت البيوت في معظمها تربي أنواع من الحيوانات أو الطيور، كالبقر والأغنام والحمير والدجاج والحمام. تعتبر البقرة ذات القيمة الاقتصادية الأفضل في ذلك الزمان ودخلها مضمون من بيع الحليب ومشتقاته كالروب واللبن والزبد وبيع العجول، حيث إنها كانت سلعة رائجة في سوق المنامة في ذلك الوقت. فقد يؤكل لحمها أو تربى للاستفادة من بيع نسلها. كما يستفاد من عظامها بعد طحنه في تسميد التربة لاحتوائه على الكالسيوم وكذلك يستفاد من جلودها في عدة صناعات مختلفة ومن روثها في الزراعة كسماد طبيعي والذي يعتبر من أفضل الأسمدة للزراعة وخصوصاً لزراعة الخضراوات والفواكه. في الماضي كان روث البقر يستخدم كوقود للطبخ بعد أن يتم خلطه بالتبن وتشكيله في أقراص مستطيلة وتجفيفه بواسطة الشمس. من هنا جاءت العبارة الدارجة عندما يعتب إنسان على آخر فإنه يقول له (ما فيك خير، فيرد ويقول: الخير في البقر).

تعتبر الأبقار صديقة للبيئة وذلك لأن جزءاً كبيراً من الغذاء الذي تتناوله هو من منتجات مزارع البحرين الطبيعية كالجت (البرسيم)، والأعشاب التي تنبت طبيعياً حول السواقي، ومجاري العيون الطبيعية، والتي تُعرف بـ (السيبان) باللفظ الدارج، تتناول الأبقار في غذائها أيضاً تمور النخيل غير الصالحة للاستخدام البشري، و «الطعام» (نوى التمور)، والبلح. كما تتناول الأبقار»العومه « والأطعمة الفائضة من موائد الناس وبعض أنواع الأسماك الصغيرة المجففة التي لا يرغب الناس كثيراً في تناولها. تستخدم العديد من منتجات النخلة في تزيين الأبقار، وربطها، وصنع الأواني التي تأكل فيها.

ومن ناحية أخرى، تعتبر رعاية الدجاج أمر مكمل لرعاية الأبقار، فكما توفر الأبقار غذاءً جيداً لأفراد الأسرة فكذلك الدجاج فإنه يوفر لهم البيض واللحم الأبيض. يفضل أكل ذكر الدجاج (الديك) على الدجاجة لوجود فائض منه. لا يحتاج الدجاج إلى أكل منفرد عن للأبقار لأنه يتغذى على المتبقي من العلف والحشرات والدود المتواجد في الحظيرة فنجد هنا علاقة المنفعة بين الجانبين. مقارنة برعاية الماشية فإن رعاية الدجاج أمر تختص به النساء أكثر، حيث تربي كل امرأة مجموعة من الدجاج في المنزل وتقوم بعضهن ببيع الدجاج والبيض في سوق الأربعاء الأسبوعي.

كان للمرأة في الماضي دوراً محورياً في تربية الأبقار والقيام بواجبات المنزل المختلفة فقد كانت تقوم بأعمال المنزل الكثيرة بمفردها دون وجود خادمة أو مساعدة، وهذا ما أعطاها قوة جسدية وصحة جيدة، فلم تكن المرأة في الزمن الماضي تشتكي من أمراض العصر كارتفاع الدهون والسكر والضغط على عكس نساء اليوم. يروي الأستاذ عبدالله عمران في بحثه عن الأبقار:

معصومة بنت يوسف بن محسن من سكنة قرية بلاد القديم وهي ربة بيت ولديها أبقار في بيتها تقوم على رعايتهم والاعتناء بهم. تستيقظ أم محمود كما تُعرف قبل أذان الفجر بقليل وتستعد لصلاة الفجر وبعد ذلك مباشرة تحمل على رأسها أواني خاصة لجلب الماء من (الساب) وهو جدول الماء الذي يأتي من عين قصاري فتملأ الأواني بالماء قبل تعكره من تأثير حركة النساء في غسل الأواني والثياب واستحمام الأطفال. ثم تعود إلى منزلها لتضع الماء في الحَب (إناء من الفخار خاص للشرب)، وتستخدم المتبقي من الماء للطهي. ثم تقوم بتنظيف الزريبة، وإطعام الأبقار، وحلبها ومن ثم تعد وجبة الفطور للعائلة وتعود للساب لغسل الملابس. ترجع إلى البيت ومعها الملابس النظيفة وتستعد لطهي وجبة الغذاء وبعد الانتهاء من الطهي وتنظيف البيت تقوم بزياراتها المعتادة إلى الأهل والجيران وربما تذهب إلى المنامة مشياً على الأقدام لزيارة أهلها هناك وتهمّ بالعودة إلى البيت قبل أذان الظهر. تهيئ وجبة الغذاء للأبقار والعائلة وبعدها تغسل أواني الغذاء في الساب. ثم تؤدي ما عليها من التزامات دينية، أو اجتماعية في منطقتها إلى أن يحين أذان المغرب فتستعد للصلاة، بعد ذلك تذهب للزريبة من جديد للاعتناء بالأبقار، وتقديم الوجبة المسائية لهم، وحلبها للمرة الثانية وإعداد طعام العشاء لعائلتها حيث ينشغل زوجها بالاستماع لنشرات الأخبار، وخاصة من إذاعة لندن! يتناول الجميع طعام العشاء، تغسل الأواني، والتي تُعرف بالمواعين، وبعد الانتهاء من كل ذلك تزور الزوجة مجالس النساء ثم تخلد للنوم، وهكذا تستمر دورة الحياة عند نساء الريف. حقاً إنها امرأة نشيطة جداً نادرة الوجود في زمننا هذا كما يقول المثل (هابَّة ريح)!

للبقرة حكايات كثيرة نذكر هنا بعضاً منها. بقرة «حسناء بنت محمد حسين العريض» التي عاشت خمسة وعشرين سنة وكانت تنال عناية خاصة ويحبها ويبجّلها كل أفراد الأسرة وكانت العمّة حسناء تقول إلى الأطفال هذه أمكم البقرة التي تعطيكم الحليب. كانت تبيع حليبها وتجمع المال لصرفه على مأتم النساء والذي كان يعرف بمأتم «بيت محمد حسين». كان طعام البقرة يأتي من مزارع أخيها «منصور العريض»، وكانت العجول تباع للذبح حيث تجمع حسناء أثمانها لإنفاقه على العديد من المناسبات في شهر محرم وصفر ورمضان. أنجبت هذه البقرة ثلاثة أجيال. بقرات حلابات وكان يضرب المثل ببقرة «حسناء»، لدى أهل المحلة - لما تدرّه من حليب.

وللحسد حكاية أخرى مع البقر، فقد كان لسيد خلف صديق مشهور يمتلك مقدرة من الحسد في عينيه، وعندما يرى شيئاً غريباً لأول مرة يتبع نظرته بالشهيق. كانت لسيد خلف بقرة من الأبقار الأصيلة «الحلابة الولود» وكانت حاملاً وفي آخر أيام ولادتها في زريبته في بستان أبو الدبس في العدلية.

كانت البقرة في ساعتها الأخيرة للوضع، أمر السيد خلف العمال بإغلاق الزريبة ووضع ستارة كبيرة عليها لكي لا يراها الغرباء والزوار، وكان من عادة صديق السيد خلف أن يأتي عصراً إلى البستان وقد أذنت ساعة قدومه وكان السيد خلف قلقاً من أن يرى هذا الصديق البقرة، فلم تكن إلا دقائق وقد وصل الصديق إلى البستان وفي طريقه إلى المجلس الذي كان قريباً من الزريبة. كان القدر بالمرصاد حين هبّت موجة من الرياح ورفعت الستارة الكبيرة عن الزريبة وانكشفت البقرة أمام عين الصديق وفي لحظة هتف الصديق «هذا ويش هالبقرة، كأنها محمل أسفار» ولم تكن سوى ثوانٍ حتى سقطت البقرة أرضاً وأخذت تضرب رأسها بالأرض حتى خمدت أنفاسها وماتت.

قال والدي عبدالكريم العريض إن أمه حسينيه خسرت بقرتها والتي كانت تعتمد عليها في الصرف على احتياجاتها الخاصة. كانت بقرة سوداء ولكنها شرسة كما وصفها والدي. ذات يوم كان أخي صالح الذي كان عمره آنذاك ثلاث سنوات يحاول أن يلعب مع البقرة وما كان منها إلا أن نطحته في رأسه وسقط على الأرض والدماء تنزف من جبهته. قرر والدي التخلص من البقرة وإرسالها إلى بلاد القديم إلى بيت خالي السيد ناصر، حزنت والدتي على بقرتها وقلبها على ولدها.

مع تقدم العصر وانشغال الناس في وظائفهم الجديدة وتغير نمط حياتهم وأماكن سكنهم اندثرت مهنة الأبقار من المنازل لعدة أسباب منها صعوبة المهنة، وانشغال المرأة عن هذه الأعمال التي تعتقد بأنها لا تلائم المرأة المعاصرة ووقاية للصحة العامة وكذلك لقلة المردود المادي وعدم تقبل الجيران لهذه المهنة لما تنتجه من روائح كريهة.

أصبح الجيل الجديد متمسكاً بالأعمال المكتبية والصناعية بدلاً من أعمال المزارع وتربية المواشي وكان لهذا الأثر الكبير في انخفاض هذه المهنة بشكل كبير، فما تبقى من الحظائر في الوقت الحاضر فإنها تكافح من أجل البقاء. قد نرى أن المرأة أصبحت تخاف من الحيوانات وإذا ذكر اسم أي حيوان لبعض البنات وهن يأكلن فربما تقول لك بأنها قد اشمأزت من هذا الأمر. أصبح المجتمع بعيداً عن الطبيعة وهذا بحد ذاته شيء مخيف لأن الإنسان هو كائن حي وأحد أفراد النظام الكوني وإذا اعتزل الطبيعة فإنه قد يجلب لنفسه المرض والضيق النفسي. ويُقال: «ثلاثة أشياء يذهبن الحزن: الماء والخضرة والوجه الحسن»، ولكن للأسف أصبحت البحرين مكدسة بالمباني عندما ردم البحر وجفت العيون الطبيعية وأبعدت الحيوانات إلى المحميات.

في الماضي كنا نرى الحمير وهم يتجولون في الأسواق مع أصحابهم البشر وفي القرى تتجول الخرفان والغنم في المساحات الخضراء ولكن كل هذا اختفى لأن المدنية غلبت على الطبيعة وأصبحنا نرى صور الحيوانات على علب الحليب والروب والجبن وعلى شاشات التلفزيون وإذا شاءت لنا الأقدار بأن نرى حيواناً ما فإننا نفرح ونضحك أو ربما نصرخ من الخوف.

إن الزراعة وتربية المواشي مهنتان قديمتان لابد أن تظلا وذلك للمحافظة على جانب من الحياة البيئية والتراث الشعبي، بالإضافة إلى ذلك فإن هذه المهنة قد تستوعب عدداً لا بأس به من الأيدي العاملة البحرينية ما يساهم في تقليل البطالة، وخلق فرص عمل إضافية جديدة لشباب البحرين، كما يمكن الاستفادة منها على المستوى السياحي، وبالإمكان تطويرها للأفضل.

العدد 4613 - الجمعة 24 أبريل 2015م الموافق 05 رجب 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 5:14 ص

      زائر

      مقال جميل و شيق ينذر بحياة قاسيه ستأتي على البحرين اذا لم تأخذ بالاعتبار اهمية البيئه والثروه الحيوانيه التي منحها ايانا الله كهديه

    • زائر 1 | 5:09 ص

      موضوع شيق

      من موازين الحضارة في أي بلد،،، موازنة البيئة الطبيعيه مع العمران،،، نجد ان الكثير من البلاد المتحضرة تتجه الان الى تطبيق هذه الموازنه من خلال تخضير المباني لتجديد الهواء ،،، وايضا نرى المراعي الخضراء في مساحات كبيرة من البلدان،،، ولكن للأسف لا نجد ذلك هنا الا في صور الماضي ولوحات الرسامين.... الصحة العامة تقتضي منا توسيع الافق وتنقية الهواء من خلال موازنة الطبيعه الخلاَّقة.

اقرأ ايضاً