العدد 4613 - الجمعة 24 أبريل 2015م الموافق 05 رجب 1436هـ

غراس... الناقد الذي سبَّب انقساماً حول ماضي ألمانيا

الضمير الأخلاقي الذي دخل في مواجهة مع «إسرائيل»...

غونتر غراس
غونتر غراس

رحل الروائي والشاعر والناقد الاجتماعي، حائز جائزة نوبل للآداب، يوم الاثنين (13 أبريل/ نيسان 2015)، عن عمر ناهز الـ 87 عاماً. أحدث نقده للسياسيين الألمان، ونقده اللاذع والمستمر لـ «إسرائيل»، انقساماً حول ماضي ألمانيا. قصيدته «ما ينبغي أن يقال»، التي نشرها في الرابع من أبريل 2012، تشير إلى تلويح «إسرائيل» بالحرب على إيران، احتكاماً إلى أوهام تتعلَّق بامتلاكها برنامجاً نووياً، في حين يُغضُّ الطرف عنها؛ على رغم امتلاكها مئات الرؤوس النووية، مع استمرار بلده (ألمانيا) في تزويدها بغواصات تحمل رؤوساً نووية متعددة الأحجام. كان الضمير الأخلاقي لألمانيا، بتلك المواجهة مع الكيان المحتل.

في الذهاب إلى روايته «طبل الصفيح»، وبطلها أوسكار ماتزيرات، ذلك الذي يريد وهو في الثالثة من عمره وقف نموه، يكتشف أن مهمته في الحياة والأجدر هي في التعبير عن نفسه بدق الطبول!

تناول غراس في كثير من أعماله موضوعات ألمانية تتعلَّق بخيبة الأمل، والماضي العسكري وتحديات بناء مجتمع ما بعد النازية.

وباعتباره ناقداً اجتماعياً، يمتلك رؤية مُؤِسِسة، بذلك التنوع الخلَّاق في الاهتمامات، وبعد النظر، وعمق الرؤية والتناول. نجح بتوجُّهه الإصلاحي التغييري، في أن يثير نوعاً من الانقسام بشأن ماضي ألمانيا الذي لم يكن مضيئاً بطبيعة الحال، والممارسة التي ابتدأت باجتياح الدول الأوروبية، وليس انتهاء بتقسيم ألمانيا إلى معسكرين. بين «طبل الصفيح» و«تقشير البصل» يختزل غراس جانباً من رؤيته إلى العالم. العالم الذي يبدأ بوطنه ألمانيا، الذي وفَّر له أرضية وظروفاً كي يكون محور اختلاف وانقسام بشأن التاريخ الألماني الذي لم يكن كله مضيئاً بمحورية حضور النازية في تفاصيله قبل الحرب الثانية.

نتذكَّر غراس الشاعر أيضاً في مجموعته «المثلث المعكوس» (1960)، و«المُشَكك» (1967)، و«المهرِّج» (2007)؛ علاوة على أعماله المسرحية ذائعة الصيت، ومن بينها «الفيضان» (1957)، و«ما قبل» (1970).

تقرير ستيفن كينزر في صحيفة «نيويورك تايمز»، يوم الثلثاء (14 أبريل 2015)، ربما التمس جانباً من السيرة والأعمال ومواقف الرجل طوال أكثر من ستة عقود أو تزيد، مع إضاءات من جانب محرر «فضاءات» ذهبت إلى ما بعد السيرة، من خلال إضاءة بعض الأعمال.

ناشر غراس «Verlag Steidl»، قال إن المؤلف توفي في عيادة في شمال مدينة لوبيك، حيث كانت موطناً له لعدَّة عقود. ولم يُعطَ أي سبب للوفاة.

الجوانب القبيحة من التاريخ

غراس الذي أطلق عليه العديد من الكتَّاب والنقَّاد «الضمير الأخلاقي لبلاده»، فاجأ أوروبا حين كشف في العام 2006 بأنه كان عضواً في «أفن-SS»، خلال الحرب العالمية الثانية. و «أفن إس إس»، هي منظمة عسكرية نازية تابعة إلى شوتزتافل، وتم تأسيسها في مطلع ثلاثينات القرن الماضي، وهي مستقلة تنظيمياً.

وكان غراس بالكاد يكون هو العضو الوحيد من جيله الذي حجب وقائع حياته في زمن الحرب. ولكن لأنه كان مثقفاً بارزاً دفع الألمان لمواجهة الجوانب القبيحة من تاريخهم، واعترافه بأنه زوَّر سيرته الذاتية الخاصة، صدم القرَّاء، وأدَّى بعضهم للنظر إلى إنجازاته الإبداعية من منظور مختلف.

في العام 2012، وجد غراس لنفسه موضوعاً جرَّ عليه كثيراً من التمحيص بعد نشر قصيدة تنتقد «إسرائيل» ولغتها العدائية تجاه إيران بسبب برنامجها النووي. وأعرب عن الاشمئزاز من فكرة أن «إسرائيل» قد يكون لها ما يبرِّر مهاجمة إيران بسبب التهديد النووي المزعوم. وقال إنها «تهدِّد السلام العالمي الهشَّ بالفعل». وتسبَّبت قصيدته «ما ينبغي أن يقال» بجدل على المستوى الدولي، وتعرَّضت إلى هجوم شخصي من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. وقال غراس في وقت لاحق، إن قصيدته هدفت إلى مهاجمة الحكومة الإسرائيلية، بدلاً من البلاد ككل.

وقد دفع غراس إلى واجهة أدب ما بعد الحرب في العام 1959، مع نشر رائعته المبتكرة «طبل الصفيح». وأشاد النقاد بالجموح الجريء الذي يتمتع به خياله الأدبي.

وقد منح غراس جائزة نوبل في العام 1999، وأشادت الأكاديمية السويدية به لاحتضانه «مهمة هائلة بمراجعة التاريخ المعاصر»، ووصفت «طبل الصفيح» بأنها «واحدة من الأعمال الأدبية الخالدة في القرن العشرين».

الناقد الاجتماعي... الشهرة

وعلى رغم أن غراس كان كاتباً مسرحياً، وكاتب مقالات، ومبدعاً في القصة القصيرة، وشاعراً، ونحاتاً وكذلك روائياً، كان دوره كناقد اجتماعي هو الذي جلب له معظم الشهرة.

ولجزء كبير من حياته المهنية، قاد حملة لنزع السلاح والتغيير الاجتماعي. وبحلول نهاية القرن العشرين، وبحملاته تلك التي لا هوادة فيها، حذَّر من أن ألمانيا المُوحَّدة قد تُهدِّد مرة أخرى السلام العالمي؛ ما دفع بعض مواطنيه إلى انتقاده؛ باعتباره فيلسوفاً أخلاقياً متحذلقاً، ومن الذين فقدوا الاتصال مع واقع الحياة.

الكشف عن ماضيه النازي أدى إلى اتهامات وُجِّهت إليه بالنفاق. وكشف ذلك بنفسه، قبل أيام من إصدار «تقشير البصل». وطالما قال غراس، إنه كان ضمن الـ «flakhelfer»، وهو مصطلح يستخدم عادة للإشارة إلى الطلَّاب الألمان الذين جُنِّدوا في الحرب العالمية الثانية لتقديم خدمات محدَّدة، وكان واحداً من عديد الشباب الألمان الذين تم الضغط عليهم للعمل في وظائف غير مباشرة في الحرب مثل حراسة البطاريات المضادة للطائرات، وحراسة معسكرات الاعتقال. ولكن في مقابلة مع صحيفة «فرانكفورتر ألجماينه»، اعترف أنه كان عضواً في نخبة «أفن-SS»، والتي ارتكب بعض أفرادها أكثر الجرائم المروِّعة، بوحي وأوامر من النظام النازي.

«كان حملاً ثقيلاً على كاهلي» وقال غراس «صمتي طوال هذه السنوات هو واحد من الأسباب التي دفعتني إلى وضع هذا الكتاب. كان لابد أن يرى النور في نهاية المطاف».

الشعور المتكرِّر بالعار

في مذكراته، يعكس غراس تقلبات الضمير والذاكرة. وكما كتب «ما كنت قد قبِلته بكل فخر غبيٍّ لشاب، هو أنني أردت أن أكتم ذلك بعد انتهاء الحرب، انطلاقاً من الشعور المتكرِّر بالعار، ولكن بقي العبء، ولا أحد يمكن أن يخفف عني ذلك».

وعلى رغم أنه تم تجنيده في «SS» العام 1944، قرب نهاية الحرب العالمية الثانية، ولم يُتهم أبداً بالمشاركة في الأعمال الوحشية، تظل الحقيقة التي حجبها هي الحاسمة من خلفيته لعقود من الزمن، في حين يجلد زملاءه الألمان لجبنهم عن إعلان صيحات الغضب. إنه «الانتحار الأخلاقي». ذلك ما قاله لصحيفة «فيلت إم سونتاج».

وقال الكاتب المسرحي رولف هوشوث، إنه كان ‹›مثيراً للاشمئزاز أن نذكر بأن غراس قد ندَّد بالرئيس رونالد ريغان والمستشار هيلموت كول لزيارتهما في العام 1985 مقبرة في بيتبرغ؛ حيث دفن جنود «أفن-SS»؛ في حين أخفي حقيقة أنه كان عضواً في التشكيل نفسه.

وجادل المدافعون عن غراس بالقول، إن نفوذه الاجتماعي والسياسي كان إيجابياً للغاية تجاه ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية؛ ما اضطر البلاد للمواجهة والتكفير عن ماضيها النازي. وقالوا، ربما لم يكن قادراً على لعب هذا الدور، لو كان صريحاً بشأن تاريخه ذاك.

وأصبحت رواية «الطبل الصفيح» واحدة من الروايات الأوروبية الحديثة الأكثر قراءة على نطاق واسع. كما جعلت غراس متحدثاً باسم جيل رائد ومعمِّر، وبالكاد تذكُّر مشاركته في جرائم النازية.

أوسكار... لا يريد أن يكْبُر

بطل «طبل الصفيح» أوسكار ماتزيراث، يريد وهو في سن الثالثة وقف نموه، ليعبِّر بعد ذلك يعبر عن نفسه فقط بدق الطبول. كان ينظر إليه على أنه يمثل الأمة الألمانية حتى توقف نموها الأخلاقي؛ لأنها لم تتمكَّن من إيجاد الشجاعة لكبح جماح النازية.

في ستينات وسبعينات القرن الماضي، تناول كثير من أعمال غراس موضوعات ألمانية تتعلق بخيبة الأمل، والماضي العسكري وتحديات بناء مجتمع ما بعد النازية. وتحققت أعظم نجاحاته في تلك الفترة من خلال «القط والفأر» التي صدرت في العام 1961، عن رجل غير عادي إلى الأبد، والذي يحدِّده بصرف النظر عن بقية الجنس البشري، و«سنوات الكلب» التي صدرت في العام 1963، والتي يحلل فيها ثلاثة عقود من التاريخ الألماني، ويشير فيها إلى أن البلد لم يحرز تقدماً كبيراً. تلكما الروايتان، جنباً إلى جنب مع «طبل الصفيح»، تشكِّل ما أطلق عليه غراس «ثلاثية دانزيغ».

العديد من كتب غراس هي خليط من اجتماع أوهام الواقع والخيال، وبعضها فيه دعوة للمقارنة مع النمط الأميركي اللاتيني المعروف باسم الواقعية السحرية. والاسم الخاص بهذا النمط في اشتغالاته هو «الواقعية المُشْرَعَة».

وفي هذا السياق، كتب المؤلف الروسي الألماني ليف كوبيليف؛ بمناسبة عيد ميلاد غراس الخامس والستين «يُقدِّم غراس عروضاً مفصلة بدقة الأشياء الحقيقية، والأوصاف الدقيقة علمياً للأحداث التاريخية التي ذابت مع الحكايات والأساطير والغرائبيات، الخرافات والقصائد، والأوهام الجامحة لإنتاج عالمه الشاعري الخاص».

ضد اتحاد الألمانيتين

بعد سقوط جدار برلين في العام 1989، دخل غراس في جدل ضد توحيد ألمانيا على أساس أن الشعب مسئول عن المحرقة التي صادرت الحق في العيش معاً في وطن واحد. واقترح أن تبقى ألمانيا الشرقية والغربية منفصلتين لفترة، ومن ثم الانضمام إلى اتحاد فضفاض من الدول الناطقة باللغة الألمانية.

وفي العام 1990، قال في محاضرة: «يتحدث أوشفيتز ضد حتى الحق في تقرير المصير الذي تتمتع به جميع الشعوب الأخرى، لأنه واحد من الشروط المسبقة للرعب، إلى جانب شروط أخرى، كون ألمانيا قوية ومُوحَّدة». وأضاف «نحن لا يمكننا الحصول على ذلك عن طريق أوشفيتز. وينبغي علينا حتى المحاولة؛ باعتبارها كبيرة ومبعثاً على الإغراء، ذلك أن أوشفيتز ينتمي لنا، وهو وصفة في تاريخنا ولصالحنا! ورسَّخ فكرة يمكن تلخيصها على النحو الآتي: «الآن عرفنا أنفسنا أخيرا».

جاء غونتر غراس إلى العالم في زمن وفي قارَّة تمزقها الكراهية؛ حيث ولد في دانزيغ في 16 أكتوبر/ تشرين الأول 1927، من أب ألماني وأم من الكاشوبيان، وهي مجموعة عرقية سلافية لها لغتها وتقاليدها الخاصة. ودانزيغ الآن، مدينة جدانسك البولندية، وكانت وقتها مدينة حرة تحت سيطرة عصبة الأمم، ولكن معظم سكَّانها من الألمان وموالين للرايخ. وكانت هي الأراضي الأولى التي استولى عليها النازيون عند اندلاع الحرب العالمية الثانية.

انضم غراس إلى منظمة الأطفال النازية (Jungvolk) في سن العاشرة. ومثل العديد من الألمان مما أصبح يعرف باسم جيل (flakhelfer)، ويزعم غراس بأنه لم يقم بأي خدمة حقيقية لجهود الحرب النازية.

كان من بينهم جوزيف راتزينغر، الذي أصبح فيما بعد البابا بنديكتوس السادس عشر. بعد انتهاء الحرب، كان غراس والبابا المستقبلي سجينين معاً في معسكر الحلفاء في باد أيبلينغ. تذكَّر غراس لاحقاً راتزينغر باعتباره «كاثوليكياً إلى أبعد الحدود» و«متوتراً بعض الشيء» لكنه «رجل لطيف».

وصف غراس نفسه بأنه «غير متشائم، ولكن مُشكِّك». ورفض بشدَّة الرأي القائل بأن الفنانين يجب أن يُكرِّسوا أنفسهم للإبداع بدلاً من التحريض. ذلك الرأي الذي قاله ذات مرة، قاد إلى الرقابة الذاتية التي كانت مبعث سرور «قوى الكنيسة والدولة».

بقيت الإشارة إلى أن غونتر غراس حصل، إضافة إلى نوبل في الآداب العام 1999، على جوائز محلية منها: جائزة كارل فون أوسيتسكي العام 1967، وجائزة الأدب من مجمع بافاريا للعلوم والفنون العام 1994.

غلاف رواية «طبل الصفيح»
غلاف رواية «طبل الصفيح»

العدد 4613 - الجمعة 24 أبريل 2015م الموافق 05 رجب 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً