العدد 4622 - الأحد 03 مايو 2015م الموافق 14 رجب 1436هـ

إنهم أفضل من برامجكم التلفزيونية

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

أعجبني قولٌ للشاعر الايرلندي أوسكار وايلد (1854– 1900): «معظم الناس أناسٌ آخرون. أفكارهم آراء شخص آخر، وحياتهم تقليد، وعواطفهم اقتباس». ولو تمعّنا في ذلك التوصيف لأحوالنا، لرأيناه واقعاً، نمارسه بشكل دائم دون أن نعيه.

ولأسباب مختلفة، انتقل هذا الواقع من الأفراد إلى أشكال أخرى في الحياة: للمؤسسات والسياسات والبرامج وغيرها، وهو ما يعني ضياع التميُّز لصالح العاديَّة. من ضمن تلك المؤسسات المُقلِّدة هي التلفزيونات والقنوات الفضائية، التي ما فَتِئت تتشبَّه بغيرها.

دقّقوا في العديد من البرامج التلفزيونية (وبالتحديد برامج الإثارة الاجتماعية والفنية)، فهي مجرَّد استنساخ لآخر، مع تكييف له. تغيير في الاسم، وزاوية الصورة، أما الجوهر فهو باقٍ لم يتغيَّر. هذا الاستغراق في التقليد، جعل المادة المقدَّمة متواضعة العطاء.

الحقيقة أن الخلل في ذلك الاستسهال ناتجٌ عن أن مساحة العطاء الإعلامي مرتبطةٌ بالمساحة السياسية القائمة وبطبيعة التفكير تجاه الآراء الأخرى. بمعنى، أن الثقافة السياسية التي تقف وراء أي بث تلفزيوني هي القادرة على جعل الإعلام متميزاً أو عادياً.

فحين تكون تلك الثقافة واثقةً من نفسها ومن قناعاتها وخياراتها، فهي لا تخشى النماذج الأخرى المطروحة، وبالتالي فهي تتعاطى معها على أنها قيم نِسبية مثلما تعتقد هي بنسبيتها، وبالتالي لا ترى في المطروح من أفكار سوى تكملة لما نقصت هي عنه، أو في تقديرات أخرى أنها قد تخلق أفكاراً جديدة يمكنها أن تؤدي دوراً أفضل.

أما حين تكون صورة تلك الثقافة السياسية مهزوزة أمام صانعيها، بسبب بعدها عن المنطق، وركونها نحو التلميع، فإنها لا تستطيع أن تستمع لآراء أخرى، لأنها تعتقد بأن تلك الآراء هي خطرٌ عليها؛ لأنها وباختصار قد تُنبِّه المستمع إلى أن أفكاراً وفضاءات تجعله أمام تحدي اتخاذ قرار حتمي ومصيري تجاه ما يجري حوله، لذلك تراها تذهب نحو تقديم المادة المبتذلة، أو تعويض ذلك بصور مستوردة من تلفزيونات يغلب عليها المظهر.

عندما تراقب بعض التلفزيونات تُصاب بالغثيان، لأنها غارقةٌ في الهراء. برامج لا تُنتِج جيلاً واعياً بقدر ما تُنتج حلقات وصوراً وبرامج متوالية هدفها قتل الوقت بالفكاهة أو تمضيته بلا ملل لا أكثر. وحين يكون سقف البرامج هي «قتل» الوقت والملل، فهذا يعني أننا ننتج برامج لسجناء داخل زنازين مقفلة كي لا يُصابوا بالسأم من حياة الوَحدة.

هذا ظلم بيِّن. وربما يكون أقسى أنواع الظلم، لأننا نستهلك من الثروات الوطنية ومن أزمنة وأعمار الناس من دون فائدة. فالظلم ليس أن تقتل فقط أو أن تجرح أو تسجن أو تُهجِّر، بل إن عدم احترام عقول الناس هو أيضاً نوعٌ قاسٍ من أنواع الظلم؛ لأن هدفه التجهيل. هم يريدون تصفير الأميَّة من جهة، لكنهم يسيرون إلى تعويضها بأميّة أخرى أخطر.

68 في المئة من نفوس شعوبنا العربية هي من الشباب، ما يعني أنهم يحتاجون إلى برامج تلفزيونية أكبر وأكثر مما هو معروض اليوم أمامها. لذلك فإن هذا الخلل في الفهم جعل العديد من القطاعات الشبابية تفكّر أسبق وأسرع من الدولة بأشواط في كثير من البلدان.

في غير مرة، يحضر المرء مجلساً أو ندوة أو حواراً في مكان أهلي يسمع فيه نقاشات هي أفضل من عشرات البرامج التلفزيونية المقدمة للناس. والسبب أن الأفق المطروح في تلك المجالس والحوارات بلا مقص رقيب، وقائم على اهتمامات أوسع من اهتمامات الدولة وثقافتها المُحجَّمة أصلاً بفعل ثقافة خائفة من الآخر، وكأنه عدوٌ لا مثيل له.

يمكنك أن تستمتع إلى تجارب أشخاص طافوا العالم، ولكلٍّ منهم صور وخيال وتسجيلات ذاكرة غنية عمرها عشرات السنين، مضافاً إليها تحليلات فكرية وفلسفية وسياسية غير خشبية، وتبادل في الرأي غاية في الاحترام. هذا النوع من النقاش هو ما يحتاجه الشباب الذين عادةً ما تكون قابلياتهم مختلفة عمّا نعتقد به.

ماذا يعني لو قال أحدهم كلمة مختلفة عمّا تود الدولة أن تسمعه؟ هو لا يشتم ولا يُسقِّط ولا يفعل شيئاً إمراً. لو قال: أعتقد أن هذا خطأ، فهل سينهار كل شيء؟ اتركوا عنكم مَنْ ينتقدون الدولة للاستحلاب فقط، أو الذين ينتقدونها لا في أخطائها بل في «تهاونها» مع الرأي المقموع أصلاً، فهؤلاء مزايدون في سوق الفتن، ولا يستأكلون إلاَّ منها وهم ليسوا جيدين لكم، ولا يعكسون صورتكم للآخرين بشكل أفضل، بل على العكس من ذلك تماماً.

نحن اليوم نسير في عالمٍ عمره المنظور والمسجَّل 2015 عام، وبالتالي فإن من الظلم أن نخاطب شعوبنا وبالتحديد شبابنا بلغة ميّتة لا حياة فيها ولا مظهر حتى. من غير الممكن تصور أن الإكليزيا اليونانية قبل آلاف السنين هي أفضل مما هو موجود لدينا، وأن دار الندوة التي بناها قصي بن كلاب في مكة قبل الإسلام هي أفضل من سقوف اليوم.

بدأتُ مقالتي بقول وأنهيه بقول ولكنه للشاعر السوري الراحل محمد الماغوط الذي قال: «لكي تكون شاعراً عظيماً يجب أن تكون صادقاً، ولكي تكون صادقاً يجب أن تكون حراً، ولكي تكون حراً يجب أن تعيش، ولكي تعيش يجب أن تخرس». أتمنى أن تكشف السنين للماغوط (وهو في قبره) أن ما قاله قد تغيَّر، فالأمل مايزال معقوداً من أن الأفضل الذي يستحقه الناس سيأتي.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4622 - الأحد 03 مايو 2015م الموافق 14 رجب 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 3:07 م

      ايييه

      ذكرتنة بأيام البرنامج المفتوح بالسنابس .. هناك حيث تخرج عشرات الكتاب والشعراء والمسرحيين والمحاورين والباحثين .

    • زائر 4 | 3:07 ص

      توضيح

      يجب ان لا ننسي ايضا الهجمة الشرسه لتحويل المشاهد العربي الي مجرد احصائيه استهلاكيه لكل قمامة ما تنتجه الشركات والأدهي والأمر ان من يروج الي دلك هم المحطات الفضائيه التي تسمي نفسها ......عربيه . شكرا استاد محمد .

    • زائر 3 | 1:28 ص

      المنافقون الدجالون

      يفضلونها غرفة يجلس فيها وحيدا يشتم من يشاء ويحلل لنفسه يعلن هذا ويحرض على ذاك وفي النهاية ينهي حفلة الزار بقول ( لقد بينت لكم الحقيقة كاملة ) بينها بدون لا رأي ولا رأي أخر ( وهذه يا استاذ يسمى في مفهوم المستمع اعلام الشلخ ) .

    • زائر 1 | 12:31 ص

      رائع

      احسنت

اقرأ ايضاً