العدد 4632 - الأربعاء 13 مايو 2015م الموافق 24 رجب 1436هـ

المدرسة القشطينية

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

لا أعرف الأستاذ خالد القشطيني إلاَّ من كتاباته. ولم أعرف أنه عراقي إلاَّ عندما قال هو عن نفسه. ولم أعرف أنه من أفضل مَنْ كَتَبَ عن الصهيونية إلاَّ عندما اطلعت على كتابه «تكوين الصهيونية». ولم يُرغمني أحد أن أقرأ له لكنني وجدت أن قراءة مقالاته باتت جزءًا من متابعتي اليومية للصحف ما أمكن، لفرادتها وخفتها على القلب وسط هذا الفيض من الأخبار المؤلمة.

كَتَب له قارئ مرة: «إذا أحبَّكَ مليونٌ فأنا واحدٌ منهم، وإذا أحبَّكَ شخصٌ واحدٌ فهو أنا، وإذا لم يُحْبِبكَ أحدٌ فاعلم أنني قد مُت». فعلاً، كتاباته هي مزيجٌ ما بين الثقافة والرأي والطرفة والمعلومة... والأهم السلاسة. هذه الأشياء تجعل من المقال مطلوباً للجميع. الصغير والكبير والنساء والرجال، بل وحتى من العدو بمقدار ما يحرص عليه الصديق.

قبل أيام، وقَّعَ القشطيني كتابه المعنون بـ «من أجل السلام والإسلام» ضمن استضافة اللجنة التنظيمية لمنتدى الإعلام العربي في ركن نادي دبي للصحافة. لم أصل بعد للكتاب لكنه حتماً سيكون ضمن مكتبتي. ليس مكتبتي «الرفوفية» بل الصغيرة التي أضع كتبها بالقرب من الوسادة، ثم أحملها معي في السيارة، أتلمس الوقت لقراءتها.

ما يُميّز القشطيني أنه إنسان متصالح مع نفسه ومع هَنَّاته ومشوار عمره بفشله ونجاحه على حد سواء. كان يقول عن نفسه أنه فشل في الحب والتجارة. فقد أحبّ فتاة جميلة جداً عندما كان يدرس الحقوق في بغداد، لكنها لم تُحبّه بل ولم تعبأ به على حد وصفه (وهو أحد أقسى أنواع الحياة عند الصينيين). السبب أنها لم تشأ أن تضيع ما تملكه «على واحد فنان ضايع صايع». بعدها بسنوات تزوجت تلك الفاتنة بضابط كبير في الجيش العراقي، لكنه مات بجلطة. شَكَر القشطيني ربه أنه لم يتزوجها وإلاّ مات هو!

للقشطيني لفتات جميلة جداً، يُوظفها من التاريخ السياسي. يذكر شيئاً جميلاً عن مشاكسات نواب معارضين كعبد الرزاق الشيخلي، وذيبان غبان ورضا الشبيبي مع رئيس الوزراء العراقي الراحل نوري السعيد. قال غبان مرة للسعيد: انظروا لأي حال أوصلتم هذا البلد. بلد هارون الرشيد والمأمون وتلك الحضارة الزاهية. ردّ نوري السعيد: نحن لم نتسلم العراق من يد هارون الرشيد لتحاسبنا. تسلمناه من الوالي العثماني!

في تحدِّ آخر يذكر القشطيني أن رضا الشبيبي هدَّد نوري السعيد بأن يُسقط حكومته. قال له الأخير: «والله إذا أسقطتمونا من الحكم، فسيأتي يوم تأتي العساكر إلى بيوتكم وتأخذ بناتكم ولا تستطيعون أن تفتحوا حلوقكم». مرت السنين بعد سقوط الملكية وحصل ما تنبأ به السعيد بالحرف. وعندما التقى الشبيبي بالرئيس العراقي الراحل عبد السلام عارف قال: «آه! الله يرحمك يا أبو صباح! ما أصدق ما قلته لي».

في نوادر الصحافة يذكر القشطيني أن «الملا عبود الكرخي» صاحب جريدة «الكرخ» الذي كان «شاعراً شعبياً سليط اللسان»، ذهب إلى أبي سليم الصراف بالناصرية وكان أحد «تجار اليهود وصيارفتهم»، كي يشترك في صحيفته فلم يقبل. هجاه الكرخي بقصيدة مطلعها: «بالناصرية صراف أكبر حرامي وبلاّف». حذر الناس أبو سليم بأن الكرخي سينشر قصيدة تتهمه «بالعمالة والصهيونية». اضطر الصراف أن يدفع «له عشرة دنانير». غيَّر الكرخي مطلع القصيدة إلى: بالناصرية صراف خوش آدمي وعنده إنصاف!

من الأشياء الرائعة التي تناولها القشطيني في أحد مقالاته هو المقاومة المدنية التي لجأت إليها بعض الشعوب الأوروبية للتصدي للنازية. لم يحملوا بندقية ولا مدفعاً، أقصى ما فعلوه – كالدنماركيين- أنهم استخدموا أسلوب الكتف البارد. ماذا يعني ذلك؟ باختصار أن على كل دنماركي أن لا يبتسم «في وجه الجندي النازي، وإذا سلّم عليك فلا ترد عليه السلام وتظاهر بأنك لم تسمعه». أيضاً «إذا كنت في مقهى أو مرقص ودخل ليجلس، فاترك المكان». كذلك «على قائد الأوركسترا أن يتوقف عن العزف أو يعزف قطعة حزينة يكرهها الألمان. اخرجوا من المحل واحداً بعد الآخر حتى يجد نفسه جالساً لوحده».

ولأن القشطيني عراقي، ولبلاده شأن خاص في السياسة والأمن والاقتصاد والأدب والفن والثقافة والكوارث على حد سواء، فقد تحصّل الرجل على كنزٍ لا يُعوّض من التجارب. بل إن كل تلك المصائب التي مرت على العراق منذ عشرات السنين وليس ما يشهده اليوم فقط، هي التي قادت الرجل أن يرى نفسه في مكان آخر، وتفكير آخر بدل أن يرى أولاده وهم يقاتلون إيران مرةً، والكويت مرةً أخرى، والأكراد مرةً ثالثة كما يشير القشطيني في أحد كتاباته. وعادةً ما تكون الجغرافيا والديمغرافيا مصدرين مهمين للإلهام بشتى صوره.

الحقيقة أن كتابات القشطيني مدرسةٌ بحد ذاتها. نعم، قد يختلف معه البعض لآرائه، لكنهم لا يختلفون على أسلوبه الجميل ولا على موسوعيته. فالتاريخ لا يجب أن يُستحضر على مسار واحد أو عربة واحدة، بل هناك طرق عديدة، تجعل منه عبرةً للحاضر. كما أن التاريخ ليس كله جرائم كي نبكي عليها، وليس كله مؤامرات، بل هو أيضاً أحداث محكية «وسوالف» يمكن أن تكون نظريات لحاضرنا كذلك، وهو ما استطاع القشطيني أن يفعله وبجدارة.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4632 - الأربعاء 13 مايو 2015م الموافق 24 رجب 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً