العدد 4634 - الجمعة 15 مايو 2015م الموافق 26 رجب 1436هـ

الأشكال الجديدة للارتزاق

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

أرجع بالذاكرة إلى ما قبل 4 سنوات و9 أشهر. حينها كنتُ قد كتبتُ مقالاً موسعاً عن مسألة «المرتزقة» في العراق، الذين استخدمتهم وزارة الدفاع الأميركية كمقاتلين، يُعوضونها عن خسائر الجيش. كان الحديث حينها يدور حول أمرين: الأول: الكلفة العالية لهؤلاء. إذ إن مقتل 1000 مرتزق أو كما يُسمَّى «متعهد» يعني دفع 3 مليارات دولار لذويهم بشكل سنوي، فضلاً عن 368 مليار دولار كتعويضات أخرى.

الأمر الثاني كان غياب شرف القتال العسكري المعروف في الحروب عند هؤلاء، إذ إن خوضهم القتال مرتبط بتقديراتهم الآنية للمعركة، وبالتالي إما النصر بالقتل، أو الهزيمة ولكن بحرق الأرض بمن فيها. والحديث كله كان يدور حول دراسة البروفيسور جوزيف ستيغلتز أستاذ الاقتصاد بجامعة كولومبيا بالولايات المتحدة، والدكتورة ليندا بيلمز أستاذة السياسة العامة والموازنة بكلية كينيدي في جامعة هارفارد في ذلك.

قبل أسابيع كَتَبَ شون مكفيت في الـ نيويورك تايمز مقالاً مثيراً وترجمه الزميل المبدع قاسم مكي. وبالمناسبة، فإن الكاتب هو زميل أول بالمجلس الأطلنطي ومؤلف كتاب «المرتزق الحديث: الجيوش الخاصة وما تعنيه للنظام الدولي»، لكنه في نفس الوقت لا يتحرَّج من القول أنه يفتخر كونه عَمِلَ «كمتعاقد في إفريقيا» يقولها هكذا كتنعيم منه للوصف. هو يقول أن زملاء له في الجيش الأميركي وصفوه بالمرتزق، وآخر اتهمه بـ «بالانحطاط الأخلاقي»، لكن الرجل ما زال يفتخر أنه كان كذلك، ناعتاً نفسه بالمقاول!

على أية حال، فإن نصف الذين قاتلوا في العراق بالجيش الأميركي كانوا مرتزقة. و70 في المئة من الذين قاتلوا في أفغانستان كانوا مرتزقة، بشهادة شون. هذا الأمر لم يعد ماضياً كما يبدو، بل هو ذاهب نحو الترسّخ في العقائد العسكرية، لأسباب أمنية واقتصادية واجتماعية لغاية الآن. لكن خطورة الأمر أن هذه الثقافة آخذة في التوسع لتشمل مجالات أخرى غير سياسية، يقودها الأميركيون أنفسهم بشكل ممنهج! كيف؟

قبل أيام، كتبت صحيفة الـ تيلغراف البريطانية من أن تركيا «توظف المدير السابق لـ CIA بورتر غوس (76 عاماً) للضغط على الكونغرس الأميركي» لأجل غير مسمَّى من خلال شركة دكستين شابيرو ومقرها واشنطن للعمل على تعزيز الموقف التركي من عدة ملفات من أهمها الأزمة السورية، إذ يقوم ذلك اللوبي على تعميق رؤية تركيا في سورية وهي إسقاط الدولة فيها، بدل التركيز على محاربة داعش كما تريد واشنطن.

والأكيد، ومن خلال ربط الأشياء، فإن هذا التعاون وراءه لوبيات أخرى داخل الدولة الأميركية وعلى حوافها بل وخارج الأرض الأميركية، تشجِّع تركيا على تقديم الدعم لـ «غوس» من أجل القيام بضغط على المسارات المؤثرة في السياسة الخارجية وبالتحديد تلك المرتبطة بالجانب التشريعي داخل الكونغرس. فهناك العديد من الجهات غير المرئية التي تتفق مع تركيا في الموقف من سورية ومن بينها إسرائيل. لكن لا يُعلَم المدى الذي وصل إليه هذا الأمر وما إذا كان قائماً بشكل تام أم لا.

إذاً، نحن أمام حالة غريبة تُكرِّسها التجربة الأميركية في السياسة والأمن في العالم. فهي إلى جانب دورها في الهيمنة تبيح أشكالاً من اللاأخلاقيات في العمل السياسي والأمني والعسكري. فبورتر غوس ليس شخصاً عادياً كي يقال أنه قد ينتقل من وظيفة عامة إلى أخرى خاصة، فهو كان رئيساً لأهم جهاز استخباراتي في العالم، وله امتدادات في عدة دوائر لصنع القرار في الداخل الأميركي وخارجه في مرحلة حساسة (لما قبل استقالته العام 2006م)، وبالتالي فهو قادر على إحداث تغيير في القرارات وإمكانية تغييرها.

هذا الأمر قد يدفعنا نحو تصوُّرات أخرى لمراكز قوى أخرى أيضاً على مستوى مسئولين أميركيين سابقين عملوا في شركات ضغط أثرت على السياسة الخارجية الأميركية في أزمات المنطقة. نحن لا نتحدث عن اللوبي الصهيوني والـ «إيباك» فهو أمر مفروغ منه؛ كونه مرتبط بقضايا دينية وسياسية متجذرة في المجتمع والدولة داخل الولايات المتحدة منذ نهايات القرن التاسع عشر، لكننا نتحدث عن ملفات أخرى لا علاقة لها بتركيا، إن كان حول روسيا أو الصين أو الصفقة المرتقبة مع إيران، أو حتى قضايا المنطقة العربية.

ونحن نعلم ظروف الحرب الأميركية على العراق سنة 2003م، إذ كانت الجوقة الدافعة نحوها من المسئولين الأميركيين قد جاءت بالأساس من منظومة معقدة من المصالح الاقتصادية في المجمّع الصناعي والنفطي الأميركي العملاق، والذي بدا أنه التحام مَصْلَحِي بين السياسة والاقتصاد يقوده أشخاص لهم قدم هنا وأخرى هناك.

لقد كان الرئيس الأميركي السابق (جورج دبليو بوش) مديراً تنفيذياً لشركة أريسكو للطاقة في مرحلة ما، وكان نائب الرئيس الأميركي (ديك تشيني) يرأس شركة هاليبرتان النفطية. وكانت المستشارة الأسبق للرئيس لشئون الأمن القومي كونداليزا رايس (وعرَّابة حرب إسرائيل على لبنان سنة 2006م) مديرة في شركة شيفرون العملاقة.

هناك أسماء كثيرة كان لها عمل مزدوج بدءًا من ريتشارد بيرل وبول وولفوويتز وريتشارد ميلون سكيفي ودوجلاس فيث، ما بين العمل الرسمي وعمل معاهد الاستشارة والضغط على طول خط الإدارات الأميركية المتعاقبة، إذ عملت بشكل دؤوب على تقديم سياسات وإبعاد أخرى لأسباب لا علاقة بالبيروقراطية المفترضة داخل الدولة.

في المحصلة، فنحن أمام نمط جديد من الرأسمالية في الولايات المتحدة الأميركية، كان بعض الآباء المؤسسين لهذه الدولة قد أبدوا خشيتهم منذ ذلك الوقت حول مصيرها وسياساتها ومَنْ سيتحكَّم فيها.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4634 - الجمعة 15 مايو 2015م الموافق 26 رجب 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 2:04 ص

      هي توسعت مهنة الارتزاق

      من امريكا انتشرت هذه الظاهرة ظاهرة الارتزاق منهم من غلفتها بالقانون ومنها من غلفتها بالمواطنة ومنها من غلفتها بالمعاهدات التدريبية واكتساب الخبرات وهناك دول جيوشها باكثريتها من الأجانب ويتم تعويضها بشكل مجزي في حالة وفاتهم او إصابتهم او حتى في الحالا ت العادية رواتبهم مغرية وايضا تطور دورهم وتوسع في الأجهزة الأمنية فهي حالة عالمية الفضل فيها لأمريكا التي نشرتها لحلفاءها في العالم وهي مطبقة ولا يستطيع اي موطن في هذه الدول الاعتراض

    • زائر 6 | 1:49 ص

      ولماذا الهروب بعيدا

      الا توجد امثلة اقرب من العراق؟
      اما ان هذه الامثلة يصعب الخوض فيها؟

    • زائر 5 | 1:36 ص

      نعاونوا على تدمير سوريا البلد العربي الوحيد الذي بقي في خندق الممانعة

      رغم التهديد والوعيد ورغم المحاولات الا النظام السوري لم يخضع وبقي صامدا في خندق الممانعة ودعم المقاومة وهذه هي الاسباب التي شنّت الحرب من اجلها .
      اما مسألة فساد النظام السوري فهو ليس الوحيد سيئا وليست الأنظمة التي قادت الحرب عليه افضل منه (سمّة ترقع بسمّة)

    • زائر 2 | 12:26 ص

      واكثر من ذلك

      معلومات مفيدة واضيف على ما تفضلت ان كل الساسة الامريكيين ما هم الا مستخدمين عند الشركات الكبرى والنفوذ اليهودي

اقرأ ايضاً