العدد 4648 - الجمعة 29 مايو 2015م الموافق 11 شعبان 1436هـ

مرآة جلال الدين الرومي

ياسر حارب comments [at] alwasatnews.com

لا أستطيع أن أتحدّث عن جلال الدين الرومي وتاريخه وآثاره في هذه المساحة الضيقة، فالحديث عنه كمحاولة ملء زجاجة بالنور، لا يفعل ذلك إلا مجنون أو صاحب همة عالية، ولا أظنني منهما.

يقول جلال الدين الملقب بـ «مولانا» أي «الخواجة»: «أَمَر العِشقُ كلامي فظَهر، ما جدوى المرآة إن لم تعكس الصور؟»، وكأنه يقول إن في داخل كل واحدٍ منا مرآة خاصة به، أي حقيقته، التي عندما تكون صافية فإنها تعكس النور والنقاء والمحبة. أو كما يحصل عندما يتحمم أحدنا بماء ساخن ويخرج من الحوض ليجد مرآة الحمام قد كستها الرطوبة فلا يستطيع أن يرى انعكاسه فيها، حينها، يسمح بيده عليها حتى تتضح له ملامح وجهه.

يقول مولانا: «أتدري لماذا لا تُنبئ مرآتك؟ لأن الصدأ لم يُجْلَ عن وجهها»، ويعني بالصدأ الصفات السيئة التي تملأ النفس البشرية، التي لو حاولنا حصرها في مجتمعاتنا اليوم لوجدنا أن أغلب النفوس مليئة بالحقد، والكره، والعنصرية، والجهل وهو الأكثر خطورة. ولذلك فإن الحياة في كثير من مجتمعاتنا المسلمة هي انعكاس لهذا الصدأ المتراكم على مرايانا، والنتيجة أن يدخل مسلم إلى مسجد، وليس إلى كنيسة، ولا معبد، ولا برلمان، ولا قاعدة عسكرية، ولا مركز تجاري، فيفجّر نفسه ظناً منه أنه على بعد ثوانٍ من لقاء الحور العين!

ورغم أن التفجير مرفوض تماماً في هذه الأماكن وغيرها، إلا أنني ما عدتُ أتفاجأ من أخبار التفجيرات الانتحارية، رغم أنها تؤلمني كثيراً، إلا أنها نتيجة طبيعية لكل المحاضرات والخطب والكتب والمقالات والفيديوهات والصوتيات التحريضية التي تملأ السمع والبصر منذ أكثر من ثلاثين عاماً، نشأ خلالها جيل على كره الآخر، ووجوب الاعتقاد بكفره وضلاله. ولم ينسَ الزارعون حينها أن يصوّروا لنا الجهاد وكأنه الغاية العظمى من هذه الحياة، حتى إذا ما ذهب أولادهم اليوم وانضموا إلى «داعش»، ركضوا إلى السلطات يبكون ويرجونهم أن يعيدوهم من هناك!

أقول لكل من راكم الصدأ على مرايانا، ولكل من جعلنا نشعر بالذنب عندما كنا نكتب ونتحدّث ونحذّر من الخطاب الأصولي المتطرف، هل أدركتم الآن لماذا كنا نكتب؟ إن من يحذّر من التطرف الديني ليس ضد الإسلام، ولكنه ضد من يحجب النور عن المجتمع، وضد من يحاول إقناعه بأنه يملك مفاتيح المعرفة، وأنه يعلم من الله ما لا نعلم.

لدي اختبارٌ شخصي أسمّيه «اختبار المرآة»، حيث كلما وقفتُ أمام المرآة حدّقتُ في وجهي جيداً وسألتُ نفسي إن كنتُ أستحي من النظر فيها أم لا؟ لم تنكسر عيني في عيني حتى الآن، ولكن اليوم الذي سيحدث فيه ذلك، سأكون قد ارتكبتُ ذنباً كبيراً جعلني أخجل من نفسي حتى أنني لم أستطع أن أنظر إليها في المرآة، وهو ما أتحاشى فعله أبداً.

أتمنى من كل إنسان يدعو إلى العنف، ويكفّر الآخر، ويرفع يديه بالدعاء على من يختلف عنه، ويشتمه ويهين مقدساته، ثم ينام ويصحو على خبر تفجير مسجد حيّهم وموت عشرين من جيرانه فيه، أتمنّى منه أن يقف أمام المرآة الآن، ويحاول أن ينظر في عيني نفسه... إما أنه لن يستطيع أن ينظر فيها من شدة الخجل والانكسار، وإما أنه سيرى، بسبب الصدأ والضباب المتراكم على المرآة، شخصاً مشوّهاً، بائساً، تحوّل من إنسان إلى وحش همّه إبادة الآخرين، تماماً كما كان يفعل التتار.

يقول مولانا: «تُلقّن الحكمة على لسان الواعظين، بقدر همم المستمعين»، أي أن ذنب أولئك الوعّاظ الذين كرّهونا في كل إنسان غيرنا، وأقنعونا بأن البشرية كلها ستدخل النار إلا نحن، ليس ذنبهم وحدهم، بل حتى نحن المستمعين، لم نكن ذوي همةٍ عالية، بل سلّمنا عقولنا وقلوبنا لهم دون حتى أن نتجرأ على السؤال، فلم يُلقّنوا الحكمة كما اعتقدنا، بل افتعلوها واخترعوها، ثم صدّقنا وكبّرنا.

إن آفة العقل الإسلامي اليوم هي الجهل، فنحن في المرحلة الأدنى من سلّم الحضارة، وهي أننا نجهل بأننا نجهل، ونحتاج، لنبدأ الصعود، أن نعلم بأننا نجهل، وهي المرحلة الثانية. أما المرحلة الثالثة فهي أن نعلم بأننا نعلم. عندها فقط سنستطيع أن نقول بأن الإيمان شأن خاص بين الإنسان وربه، وكل ما يَلْزَمُنا من الآخر هو شخصه لا اعتقاده، عقله لا نيّته، عطاؤه لا مذهبه.

يقول جبران: «الإنسانية نهرٌ من النور يسير من أودية الأزل إلى بحر الأبد». إن أبسط وأعظم شيء نحتاجه لكي لا تُفجَّر المساجد، ولا تُقطع الرقاب، ولا يُحرق الأحياء باسم الدين، هو أن يعود أحدنا إنساناً مُجرّداً من وَهْم «الاصطفاء»، ولكي يصل إلى ذلك فإنه في حاجةٍ إلى مرآة جديدة، أو على الأقل، أن ينظّف مرآته القديمة.

إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"

العدد 4648 - الجمعة 29 مايو 2015م الموافق 11 شعبان 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 9:15 ص

      اليوم انا حكيم

      يقول الرومي أمس كنت ذكيا أردت تغيير العالم واليوم أنا حكيم ستغير نفسي

    • زائر 1 | 2:49 ص

      دمت ناصحا

      استاذ ياسر،، اسلوب معالجتك للحدث مميزة و فريدة و راقية، دائما ما تنهج نهجا يتسم بالشفافية و ملامسة الجرح بحنو و رأفة .. دمت مصلحا معلما و ناصحا.
      لك الف تحية

اقرأ ايضاً