العدد 4686 - الإثنين 06 يوليو 2015م الموافق 19 رمضان 1436هـ

النسخة الأصلية... هذه جذور «داعش»

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

لم يكن إطلاق اسم «الخوارج» في مستهل التاريخ الإسلامي، تحاملاً من فئة من المسلمين على فئة أخرى، وإنما نتيجة انشقاقات فكرية كبرى ظلت ذيولها فاعلةً في الساحة لقرون.

كانت البوادر الأولى للتكفير تظهر من خلال مسلك فئة محدّدة من المتشدّدين، تفتقر إلى الكياسة إلى حد كبير، وتجمعها صفات الرعونة والجلافة والفظاظة وخشونة الأخلاق، في المجتمع الإسلامي الأول.

في قراءة السيرة، ستقف على قصص متناثرة عن طريقة تعامل بعض هؤلاء حتى مع صاحب الرسالة (ص)، حيث يخاطبه أحدهم، واسمه حرقوص بن زهير التميمي من نجد، محتجاً على طريقة توزيع العطاء: «اعدل يا محمد فإنك لم تعدل»، فغضب (ص) وقال: «ويلك! ومن يعدل إن لم أعدل»؟، وهو ما أغضب الخليفة عمر بن الخطاب حتى همّ بضرب عنقه. وكان النبي (ص) أول من أخبر بخروجهم من الدين، وعيّن علامات لبعضهم، «رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة... ويخرجون على حين فِرَقةٍ من الناس». وقد ذرّت تلك الفرقة بقرنها بعد ذلك بثلاثين عاماً، حين اشتعلت الحرب الأهلية في الشام والعراق، وجاءت معركة النهروان في أعقاب معركتي الجمل وصفين.

الخوارج كانوا جزءاً من المجتمع، وكانوا يمثّلون طبقةً من القرّاء، العبّاد الزهّاد المتشدّدين، لكن مشكلتهم في ضعف رؤيتهم وبصيرتهم، وقال فيهم (ص): «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَمِيَّة». وقد وعد أصحابه بمقاتلتهم، وهو ما تحقّق فعلياً في خلافة علي بن أبي طالب (ع)، بعد سلسلةٍ من المواقف المتناقضة، من إصرارهم على إيقاف الحرب في مقطع مفصلي حاسم، وفرضهم التحكيم، ورفضهم ترشيح عبدالله ابن عباس، ولما انكشف التحكيم عن لعبةٍ كبرى، طلبوا من الإمام أن يشهد على نفسه بـ «الكفر» ويعلن توبته بعد خمسين عاماً من الجهاد تحت لواء محمد. فقال بمرارةٍ: «أبعد إيماني بالله وجهادي في سبيل الله أشهد على نفسي بالكفر! لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين».

وكانت هذه الثلّة «التكفيرية» هي أول من رفع شعار «لا حكم إلا لله»، وتحته أعلنت التمرد وقاتلت الشرعية. ورد عليهم عليٌّ (ع) بمنطق رجل الدولة والحكمة والدين: «كلمة حق يراد بها باطل. نعم لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله! وإنه لابد للناس من أمير، بر أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر، ويُبلِّغُ اللهُ فيها الأجل، ويُجمَع به الفيء، ويُقاتَل به العدو، وتأمن به السُبُل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح بر أو يُستراح من فاجر».

هذه القطعة من أروع قطع الأدب السياسي التي لا يزول منها العَجَبُ ولا يحول، وكلّما مرّ بك العمر وأعدت التأمل فيها، اكتشفت عمق الرؤية ونفاذ الحكمة وبصيرة السياسي الصدوق. فالمجتمع البشري يكون مخيّراً أحياناً بين حكم السلطان الجائر، وبين الفوضى الشاملة المدمّرة، التي لا تبقي ولا تذر، كما هو حاصلٌ اليوم في المنطقة الجغرافية نفسها التي شهدت ولادة «داعش» الأولى عند الحدود العراقية السورية، ولم يكن صدفةً أن اختار الخوارج الجدد اسم «دولة العراق والشام»، عودةً إلى مشاربهم وجذورهم الأولى.

قبل النهروان، كانوا يقاطعون علياً أثناء خطبه في مسجد الكوفة فيصبر على حماقاتهم، وكان يقول لهم: «ألا إن لكم عندي ثلاث خِلال: لن نمنعكم مساجد الله، ولن نمنعكم فيئاً ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا» كما رواه البيهقي. وحين صاح به أحدهم وهو يصلي: «لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكوننّ من الخاسرين»، ردّ عليه بآيةٍ من القرآن: «فاصبر إن وعد الله حقٌ ولا يستخفنك الذين لا يوقنون».

وظلوا يفتعلون النزاعات ويؤجّجون الصراعات فيعاملهم بصبرٍ وأناة، حتى شرعوا في ترويع الآمنين وقتل الأبرياء، واندفعوا في اقتراف جرائم مروّعة، كان أفظعها قتل الصحابي الجليل خبّاب بن الأرَتّ، وبقروا بطن زوجته الحامل... هنالك انبرى عليٌّ ليعلن عليهم الحرب.

قبيل المعركة، أرسل لهم يحذّرهم من مغبة السفه والطغيان: «فأنا نذيرٌ لكم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النهر، على غير بيّنةٍ من ربكم، ولا سلطانٍ مبينٍ معكم، قد طوّحت بكم الدار، واحتلبكم المقدار... وأنتم معاشرُ أخفّاءُ الهام، سفهاءُ الأحلام». وهي صورٌ وصفاتٌ تبرز أمام ناظريك وأنت تتابع فصول الجرائم والموبقات التي يرتكبها خوارج العصر في سورية والعراق منذ عام، وبدأ يمتد لهبها مؤخراً إلى الكويت وأطراف الجزيرة العربية.

في اللحظات الأخيرة، حين أخبر الإمامَ أصحابُه بعبور الخوارج النهر، بشّرهم قائلاً: «والله لا يفلت منهم عشرة ولا يهلك منكم عشرة». وحين انتهت المعركة التمس الإمامُ حرقوصاً ذا الثَدِيّة، فأُتي به «حتى نظرت إليه على نعت النبي الذي نعته»، كما قال أبوسعيد الخدري (رض) الذي كان أحد شهود الواقعة.

ما أصعب أزمنة الفتن، وما أبهظ تكاليفها، وهو ما يصوّره الفدائي الأول في الإسلام: «ولكنا أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام، على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة والتأويل»... ولله عاقبة الأمور.

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 4686 - الإثنين 06 يوليو 2015م الموافق 19 رمضان 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 20 | 2:38 م

      لله الامر من قبل ومن بعد

      احسنت أستاذنا كفيت ووفيت والله المستعان

    • زائر 19 | 1:34 م

      نعم

      ........... ماتعمله في السر غير اللذي تعمله في العلن وينطبق ذلك على أمريكا.

    • زائر 17 | 9:21 ص

      القضاء على الخوارج في عهد الأمويين !!!

      تم دحر الخوارج في فترة عهد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان

    • زائر 18 زائر 17 | 1:05 م

      غير صحيح

      الخوارج ظلوا لاكثر من 200 سنة وقامت لهم دول كثيرة في المغرب والمشرق.

    • زائر 15 | 8:44 ص

      القوم أبناء القوم

      التاريخ يعيد نفسه

    • زائر 13 | 6:26 ص

      تلك الأيام نداولها بين الناس

      مقال رائع جدا يستقي من التاريخ شذرات من نور الحكمة والبلاغة من كلام سيدالأوصياء والدنيا دول والتاريخ يعيد نفسه والناس في موقع اختبار وفي النهاية الأرض يرثها عباد الله الصالحين

    • زائر 12 | 5:14 ص

      بيض الصعو

      النصر للاسلام على داعش

    • زائر 11 | 4:58 ص

      الحال من بعضه

      استاذ قاسم المقال رائع وما استشهدت به من كلام الى امام المتقين هو حقيقة دواعش هذا العصر ولكن هناك قواعد لاصل الحكم واذا خالفت هذه القواعد خالفت القران والسنة وسمح لي ان اقتبس من مقالك هذا المقطع(وهو ماأغضب الخليفة عمر بن الخطاب حتى هم بضرب عنقه)اذا هذا حصل فاين ... راجع ميزان العقل الذي يقر بان رسول الله بعث رحمة للعالمين.

    • زائر 10 | 4:12 ص

      هم الاخسرين اعمالا

      الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يظنون انهم يحسنون صنعا

    • زائر 9 | 3:31 ص

      أصبت ..

      أحسنت أيها الحصيف، جنب الله المسلمين شرهم و أركسهم في شرورهم، و خلص الناس منهم عاجلا ..

    • زائر 7 | 3:13 ص

      قراءة تاريخية

      هذه جذور داعش . هؤلاء على طريق اسلافهم والله يستر.

    • زائر 4 | 2:41 ص

      وجهان لعمله واحده

      الدواعش هم الخوراج لهذا الزمان

    • زائر 3 | 2:36 ص

      مقال جميل

      لا فُض فوك، مقال رائع يحاكي صراعات الماضي الذهبي للحاكم العادل مع غلاة التكفير، والتاريخ يعيد نفسه مع هذه العقول التي غلب عليها ضعف الإيمان والبصيرة

    • زائر 1 | 2:08 ص

      لكل زمان خوارج

      لن يمر زمان بلا وجود لهذه الفئة المارقة التي تفهم بالمقلوب

اقرأ ايضاً