العدد 4694 - الثلثاء 14 يوليو 2015م الموافق 27 رمضان 1436هـ

انتهاك

هناء بوحجي comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

قبل خمسة عشر عاماً، كانت صور الضحايا، أكثر ما آلمني في حادثة طيران الخليج، التي قضى بسقوطها قبالة ساحل المحرق، 143 مسافراً كانوا قادمين من مصر.

المؤلم في ذلك المساء الحزين، ليس فقط ما حملته الصور من تعابير معاناة اللحظة الأخيرة في حياة هؤلاء الضحايا، وإنما أيضاً انعدام خيارهم في الظهور، من عدمه، في تلك الصور أمام الملأ.

وإن بدا وقتها أن مفاجأة الحادث وصدمته ورغبة القائمين على الأمر في تعجيل إنهاء الإجراءات، قد دفعت لعرض صور الضحايا بعد انتشالهم من البحر، في قاعة فندقية، جُهّزت سريعاً لهذا الغرض؛ فإن الكثيرين، هذه الأيام، أصبح يغريهم توفر إمكانيات التصوير والتسجيل لنقل ما يقع تحت أعينهم وأيديهم من لحظات خاصة للآخرين، دون الاكتراث لخصوصية الطرف المقابل، مع العلم بأن ما يخرج من جهاز الهاتف سينتشر في كل مكان يطاله «الإنترنت».

أحد «المتلصصين» ممن كانوا مع وزير خارجية السعودية السابق، الذي رحل إلى جوار ربه الأسبوع الماضي، في لحظاته الأخيرة، تمكّن من التقاط صورة له، خفية وعلى عجل، كما بدا من انخفاض جودة الصورة، ونقل أيضاً مقطعاً مصوّراً له وهو ينطق الشهادتين. وقبله بأيام، نشر صبي في حسابه على الانستغرام صورة له مع جدّه المتوفى وهو فاغراً فاه، مصحوباً بتعبير ساخر وتعليق «باي باي جدو».

لم يختر أي من الراحلَين، مع تفاوت مكانتيهما الخاصة والعامة، أن تنتشر صورهما وهما في ذلك الوضع الخاص، ولا يختلف اثنان على أن هذا السلوك يعد انتهاكاً غير مقبول للخصوصية، فهذا الوقت يجب أن يكون مقصوراً على المقربين جداً والمأمون احتفاظهم، لهم وحدهم، بتفاصيل هذه اللحظات الأخيرة بما تحملها مشاعر ومعانٍ، من عمر من يعزّ عليهم.

وسلوك «المتلصص» على خصوصية المسئول الكبير الراحل، ومن قبله الصبي المراهق، ليس بعيداً عن سلوك الكثيرين هذه الأيام، فينشر صور أقربائهم في وسائل التواصل الاجتماعي، وهم على فراش المرض أو خارجين للتو من غرفة العمليات بكل ما تحمله تلك اللحظات من خصوصية قد لا يودّ صاحب الشأن نفسه أن يتذكرها لو تسنى له رؤية صورته عليها فيما بعد، فكيف بنشرها في الفضاء الإلكتروني ليتاح للمئات مشاهدتها ومشاركتها والاحتفاظ بها وغيره مما يتيحه نشر الصور.

إن الذائقة الإنسانية السويّة لا تقبل أن ينكشف وضع خاص لأي شخص على الملأ دون إرادته ومن دون استئذان، تماماً كما لا نحب أن يرانا أحد في لحظاتنا الخاصة بما فيها لحظات ضعفنا ومرضنا، ولذلك يتوقف الكثير من الشخصيات المعروفة في عالم السياسة أو الثقافة والفن، عن الظهور العام في وقت معين لكي يحتفظوا بالصورة التي يرتضونها لأنفسهم في أذهان من يعرفهم.

وحق الخصوصية ليس مقصوراً فقط على المناسبات الحزينة والمؤلمة، وإنما يجب أن يكون مكفولاً لأي شخص في أي مكان وزمان من تجمعات العائلة والأصدقاء، إلى الحفلات، إلى أندية الرياضة، أو حتى ببساطة المشي في السوق. فلا يحق لأيّ كان أن يلتقط صوراً خاصة ويعتبرها حدثاً اجتماعياً قابلاً للمشاركة في أية وسيلة تواصل اجتماعي خاصة أو عامة. وهذا لا يعني بأي شكل من الأشكال الحدّ من الاستفادة من وسائل التواصل، فالتطورات تخلق لأجل استخدامها، ولا بد أن تواكبها أنظمة وقوانين لضمان عدم إساءة الاستخدام.

في البحرين ينص قانون العقوبات لسنة 1976، في مادته (370) على الحبس والغرامة أو أحدهما لمن ينشر بإحدى طرق العلانية، أخباراً أو صوراً أو تعليقات تتصل بأسرار الحياة الخاصة أو العائلية للأفراد ولو كانت صحيحة إذا كان من شأن نشرها الإساءة إليه، لكن القانون وحده لا يكفي، فالإنسان المتحضر تتطور قوانينه الذاتية مع كل تطور خارجي، وفق قيمه ومبادئه الإنسانية، وكما يحب لنفسه، وما يكره أن يعرِّضها له. فالمزيد من التكنولوجيا يعني المزيد من القدرة والحرية، ومعهما تزيد المسئولية الذاتية تجاه استخدام هذا التطور لصالحه دون المساس بحقوق وحرية الآخرين.

إقرأ أيضا لـ "هناء بوحجي "

العدد 4694 - الثلثاء 14 يوليو 2015م الموافق 27 رمضان 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 7:53 ص

      الوعي العام

      السلام عليكم. لقد ابدعتي يا ام خالد بطريقة الولوج الى ما كنتِ تقصدين وجمعتي شمل المعنى. فعلاً فالإنسان المتحضر تتطور قوانينه الذاتية مع التطور العام. امل النعيمي

    • زائر 2 | 4:15 ص

      أمل ج.

      للأسف فإن المجتمع ينتهك خصوصية الفرد من مولده وحتى بعد مماته.. والعائلة الشرقية خصوصاً تعطي نفسها الحق بالتدخل في كل صغيرة وكبيرة في حياة أفرادها وتمارس التسلط والتحكم في كل فرصة متاحة لها على أفراد العائلة..
      الأسوأ من هذا فإن الفرد نفسه أصبح يعتمد رلى وسائل التواصل الإجتماعي وتعليقات الآخرين لإثبات نفسه والتعبير عن شخصيته فيقوم بإنتهاك خصوصيته بنفسه وتعريض حياته الشخصية لأعين وألسن الملأ دون حدود..
      للأسف وضع محزن..

    • زائر 1 | 12:38 ص

      فعلا

      غريبه هي بعض مسجات الوتز اب...سهوله اخذ الصوره والرغبه باخذ السبق بالنشر يدفعان العديد بنشر مالايجب نشره...خصوصيات البشر انعدمت في هذا الزمن....موخرا تم نشر صور لشاب تعرض لحادث واجزم ان الصور وصلت لاهله وربما والدته خلال سويعات ان لم تكن دقائق...على اي حال كانت والدته او ابوه او اهله؟ ناذا فعل بهم ال"سبق الصحفي"!! لبعض البشر.

اقرأ ايضاً