العدد 4722 - الثلثاء 11 أغسطس 2015م الموافق 26 شوال 1436هـ

تحديات التطبيع بين واشنطن وهافانا

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

بعد قطيعة لأكثر من خمسين عاماً وعلى وقع رقصة السالسا، صادق البرلمان الكوبي بإجماع على اتفاق تطبيع العلاقة بين هافانا وواشنطن. لا يمكن النظر للحدث بإنه تحول سياسي مفاجئ، وخصوصاً أن مفاوضات الطرفين تراكمية قاربت العامين وحظيت برعاية الفاتيكان وكندا وموافقة مباشرة من الرئيس باراك أوباما حتى إنها وصفت بالشاقة والسرية. كما وصف الاتفاق بأنه «نقطة تحول تاريخية» و«بداية النهاية للحرب الباردة في الأميركيتين»، بل و«انتصاراً أخلاقياً». وعليه لا عجب البتة من الزخم الإعلامي للتطبيع طالما دققنا النظر في بعدين أساسيين يمثلان تحدياً للبلدين، الحالة التاريخية بين واشنطن وكوبا، والمتغيرات السياسية للخارجية الأميركية.

بالنسبة إلى العامل الأول «الحالة التاريخية بين واشنطن وكوبا»، بدأ التطبيع بمصافحة تاريخية بجوهانسبرج في ديسمبر/ كانون الأول 2014، المصافحة فتحت منفذاً جديداً للعلاقات الدبلوماسية التي سادها عداوة وحرب باردة وقطيعة منذ العام 1960. تشير الوثائق إلى امتداد علاقة البلدين للعام 1898عندما أرسلت الولايات المتحدة قواتها لمساندة حركة الاستقلال الكوبية ضد الاستعمار الإسباني، ثم سيطرت بعدها على الجزيرة وسمحت بإقامة «جمهورية كوبا المستقلة» في 1902، وأقرت بنداً في دستورها يسمح للولايات المتحدة بحرية التدخل العسكري، كما عقدت معاهدة حق استئجار دائم لـ «غوانتانامو» التي أقامت فيها معسكر اعتقال العام 2002.

في عشرينيات القرن الماضي فرض السفير الأميركي على كوبا حكومة موازية فعلية، أنشئ بمقتضاها مصالح وشركات أميركية وفق شروط عززت من هيمنة واشنطن السياسية والاقتصادية، لم يدم الأمر طويلاً حتى وصل فيدل كاسترو ورفاقه للحكم العام 1959 فبدأت القطيعة الرسمية بينه وبين واشنطن إثر إطلاق مشروعه للإصلاح الزراعي وتأميم الأراضي والشركات الأميركية في 1961، وازدادت القطيعة بعد المحاولات الفاشلة لـ «سي آي إيه» الداعمة للانقلابين ضد كاسترو، وتفاقمت أكثر أثناء أزمة الصوارخ النووية السوفياتية التي نصبتها موسكو على الأراضي الكوبية حتى كادت تتحول إلى حرب نووية بين القطبين، (وعرفت بحرب «خليج الخنازير»)، لولا التسوية التي تعهدت فيها الولايات المتحدة بعدم غزو كوبا والموافقة سراً على سحب صواريخها من تركيا، مقابل تعهد موسكو بسحب صواريخها من كوبا.

الحكاية تطول وواشنطن لا تكتفي بما فعلت، فتقرر فرض حظر مالي واقتصادي وتجاري على كوبا العام 1961 لاسيما وقد بدأ النظام الكوبي ينتهج طابعاً اشتراكياً في مساره واقترابه من موسكو وقيامه بدعم الحركات الثورية في أميركا اللاتينية، الأمر الذي دفع بالكونجرس الأميركي للتصويت على تصحيح الوضع في 1966، فاندفع الكوبيون إلى هجرة جماعية وصلت إلى 1.5 مليون كوبي في 1980 تمركز أغلبهم في فلوريدا، ووضعت كوبا على قائمة الدول الراعية للإرهاب في 1982. كما فرض الطرفان قيوداً مشددة على حركة سفر المواطنين وتنقل رؤوس الأموال بينهما على رغم افتتاح أقسام لرعاية المصالح الثنائية في 1997، هذا لجهة البعد التاريخي.

أما لجهة البعد الثاني، فيرى المحللون بأن ما حدث يندرج في إطار إعادة ترتيب أولويات السياسة التي تبناها أوباما منذ 2009، وهي تركز على الاستدارة باتجاه الشرق الأقصى (Pivot)، ومتغيرات هذه السياسة متشابكة ومتعددة يكمن بعضها في الداخل الأميركي كما خارجه، فهناك الأوضاع الداخلية السياسية والاقتصادية وتآكل البنية التحتية للمجتمع الأميركي التي دفعت أوباما لتصحيح وضع الاقتصاد بتقليل الأعباء والنفقات وخفض التزامات الولايات المتحدة الأمنية وتقليص وجودها العسكري المباشر في الشرق الأوسط وبقية بقاع العالم، والتوجه للاعتماد على الحلفاء والشركاء كي يتحملوا مسئولياتهم للمساهمة في الأمن الإقليمي.

إلى جانب ذلك، سعيه لإعادة تركيب نظام العولمة بهدف ترسيخ الزعامة على العالم، لاسيما في ظل التحولات النوعية الضخمة التي طرأت في موازين القوى العالمية وانعكست على صعود دول آسيوية كـالصين والهند واليابان، وبلدان أخرى ككوريا وتايوان والبرازيل، فهذه المناطق وبحكم وضعها الجيو - سياسي تتمركز فيها الموارد والمصالح الاستراتيجية والاقتصادية الأميركية.

من ناحية أميركا اللاتينية وكندا والكاريبي، حيث تقع كوبا موضوع الحدث، فهي تحتل أهمية خاصة في أهداف الأمن القومي الأميركي، خصوصاً مع تعاظم مستقبلها السياسي والاقتصادي والشراكة الاستراتيجية النامية بينها وبين الصين التي شاركت بإنشاء صندوق للسيولة المالية لدول «منظمة البريكس» بقيمة 100 مليار دولار، حيث تساهم فيه بحصة 41 مليار دولار، إضافةً إلى زيادة استثماراتها المباشرة التي ستصل لـ 250 مليار دولار بحلول العام 2015، ما يعزّز بالطبع من وضعها كشريك تجاري في هذه المناطق بعد الولايات المتحدة.

الثابت أيضاً أن سياسة الصين تؤكّد على مفهوم النظام العالمي متعدد الأقطاب، كما ترفض التدخل في الشئون الداخلية للدول، ولا عجب ولا استغراب من المحاولات الأميركية تقويض النفوذ الصيني المتنامي في المناطق الحيوية والاستراتيجية عالمياً ومنها البحر الكاريبي الذي تشتد فيه المنافسة بين بكين وواشنطن، باعتباره الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، وعليه شهد اجتماع تجمع «سيلاك» في 2014 توترات بين واشنطن وكوبا بسبب الحصار، كما جاء الإعلان عن عقد منتدى الصين - سيلاك لتجنب الاعتماد المفرط على واشنطن، ولهذا السبب وغيره تمهد الطريق لإعلان الولايات المتحدة عن خططها لاستعادة العلاقات الدبلوماسية مع كوبا ولتحسين صورتها ومكانتها في العالم.

تحديات التطبيع

في الحقيقة عملية التطبيع لا تختصر بالنوايا الحسنة والمصافحة ورفع الأعلام وفتح السفارات، فهي أكثر تعقيداً، كونها تتعلق بفتح أبواب المحادثات على مصراعيها حول قضايا حساسة وجوهرية تمس حرية الدول وسيادتها وأمنها، وهي التي دفعت المحللين إلى التساؤل بتوجس عمّا ستؤول إليه علاقات أميركا وكوبا بعد التطبيع، وهم محقون في شكوكهم وتوجسهم لاسيما مع تباين الآراء بشأن تأثير الخطوة التاريخية ومستقبل النظام السياسي والاقتصادي الكوبي.

خلاصة الأمر، إن قطيعة خمسة عقود عمّقت نقاط الخلاف المتعلقة بتداعيات رفع الحصار وإعادة قاعدة «غوانتانامو» والتعويضات بمليارات الدولارات التي يطالب بها الأميركيون ممن صودرت أملاكهم، وقضايا الهجرة وتأمين الطيران ومكافحة المخدرات وتحديث خدمات البريد وأنظمة الاستعدادات للتسريبات النفطية وعمليات البحث والإنقاذ وغيرها، خصوصاً أن كوبا تحمّل الولايات المتحدة مسئولية المصاعب الاقتصادية والإنسانية التي عانى منها الكوبيون جراء الحظر. وعلى رغم تفاؤل البعض بأن التطبيع سيدفع باتجاه الانفتاح الاقتصادي والتحرر السياسي، إلا أنه يواجه تحديات مصدرها كوبيون مهاجرون يرفضونه ويرون أن النظام الكوبي هو أول المنتفعين به، بل سيساعده في الحفاظ على أدواته القمعية، كما وصفه بعضهم بالخيانة، فيما وجده صقور الحزب الجمهوري الأميركي تراجعاً غير مبرر بسبب عدم مناقشة النظام في ممارسته للقمع السياسي وانتهاكه لحقوق الإنسان.

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 4722 - الثلثاء 11 أغسطس 2015م الموافق 26 شوال 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً