العدد 4731 - الخميس 20 أغسطس 2015م الموافق 06 ذي القعدة 1436هـ

ملء الفراغ بالحروب الأهلية

يوسف مكي comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

الشرق الأوسط، هو تعبير جيوسياسي، متحيز لأنه ينطلق من كون القارة الأوروبية هي مركز العالم. وعلى ضوء ذلك يتحدد الشرق والغرب. بل إن هناك «شرق أوسط» و«شرق أدنى» و«شرق أقصى»، وجميع هذه التصنيفات ترتبط بإنجلترا، الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس.

والموقع بناء على هذا التصنيف، ليست له علاقة بالأقوام، التي تعيش في الشرق، أقصاه وأوسطه وأدناه. وأهمية هذه المناطق، لا تكمن في قواها البشرية، بل في ثرواتها ومواردها، ومضائقها ومعابرها، وممراتها، ومواقعها الاستراتيجية. ومن هنا فليست هناك حسابات لثقافات ومعتقدات وانتماءات الشعوب القاطنة في تلك المناطق. وقد ارتبط المصطلح بالصراعات الكولونيالية على المنطقة. ولأنه يرتبط بالمصالح الاستراتيجية للقوى المتصارعة، فإن جغرافيته لم تمتلك صفة الثبات، فهي تتمدد وتتوسع تبعاً لتلك المصالح.

يضم الشرق الأوسط بلدان المشرق العربي وإيران وتركيا، والكيان الغاصب، وأحياناً تضم له باكستان وأفغانستان. وإثر سقوط السلطنة العثمانية، وإعادة تشكيل الخريطة السياسية للمنطقة على ضوء المصالح البريطانية والفرنسية، فيما عرف باتفاق «سايكس – بيكو»، تم النظر إلى البلدان التي صنفت كبلدان الشرق الأوسط، على أنها وحدة جيوسياسية، بالنسبة للمصالح الاستعمارية.

واستناداً إلى هذه القاعدة، فإن كل الأحلاف العسكرية التي طرحت في المنطقة، منذ مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، ابتداء من مشروع الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور لملء الفراغ في الشرق الأوسط، إثر هزيمة وتضعضع بلدان الاستعمار التقليدي في الحرب العالمية الثانية، إلى حلف بغداد، ولاحقاً حلف المعاهدة المركزية، دشنت على قاعدة انتمائها للشرق الأوسط، من غير وضع أي اعتبار للانتماءات القومية، لشعوب المنطقة.

ووفقاً لهذه الرؤية، فإن من الطبيعي أن تتسم العلاقة الاستعمارية، بحركة التحرر الوطني، وبالحركة القومية العربية بالعداء. فحركة التحرر هي بالأساس موجهة ضد الاحتلال، وتطمح للتحرر ونيل الاستقلال. بمعنى أنها ابتداء ضد الأحلاف التي أشير إليها. وتطمح حركة القومية العربية، إلى تعبئة الشعب العربي، نحو فكرة العروبة، واعتبار الأولوية للانتماء للأمة، وليس لمصطلح الشرق الأوسط. وقد عملت ولا تزال على تكنيس آثار سايكس- بيكو ووعد بلفور.

انزياح الاستعمار التقليدي، الذي بدأت ملامحه تبرز بوضوح منذ منتصف القرن الماضي، واتضحت مقدماته في تبني الرئيس الأميركي روزفلت لسياسة الباب المفتوح، أدّت إلى تسلم الولايات المتحدة تركة الاستعمار التقليدي في المنطقة العربية. ومنذ البداية، طرح أيزنهاور مشروعه لملء الفراغ فيما عُرف بالشرق الأوسط.

وقد تم الإفصاح في حينه، عن نهاية النظام العالمي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الأولى، بما في ذلك عصبة الأمم، وتشكيل نظام دولي جديد تكون الأمم المتحدة أحد تعبيراته. وكان واضحاً أن الولايات المتحدة الأميركية، لم تكن ترغب في بقاء النظام العربي، حتى بتشكيله الهش والكسيح، وأنها ترغب في الإجهاز نهائياً عليه.

كان سبيل الولايات المتحدة للإجهاز على النظام العربي، والحيلولة دون تقدم حركة القومية، هو دعم الكيان الصهيوني، وجعله قوة ماحقة، قادرة على سحق الجيوش العربية مجتمعة. ومن جهة أخرى، تسعير الصراعات السياسية بين الأقطار العربية. وقد نجحت الاستراتيجية الأميركية في ذلك إلى حد كبير.

لم يكن دور الكيان الصهيوني، بالنسبة للولايات المتحدة سوى مقدمة أولية، لتفكيك الكيانات الوطنية. فقد تلازم الدور الصهيوني مع تسعير للنزعات العرقية، في شمال العراق وجنوب السودان. وليس خفياً على أحد الدور الأميركي في تسعير تلك النزعات. وتعدّى الأمر ذلك، في مراحل لاحقة، بتحفيز نزعات انفصالية، عرقية ودينية لفئات شكلت لآلاف السنين ركناً أساسياً من النسيج الوطني، كما هو الحال مع الأمازيغية في بلدان المغرب العربي. وجرى العمل، على بعث هويات اندثرت منذ زمن طويل كالفينيقية والآشورية... وكل ذلك يصب في مخطط تفتيت الوطن العربي، إلى ما هو أقل من الكيانات المجهرية.

كانت هزيمة الخامس من يونيو/حزيران 1967، محطة رئيسية في محطات إخضاع الأمة، وإضعاف مقاوماتها تجاه الاحتلال والتغريب. وتبع ذلك الانتقال في النظرة للصراع مع الصهاينة، من صراع الوجود إلى صراع الحدود. وتكشف خلالها غياب النظام العربي، وتخلخل ثوابته القومية. وكانت العلاقات بين الحكومات العربية في حينه، تقوم وفقاً لتعبير المفكر العربي، عبدالإله بلقزيز، على «غش متبادل».

ولا شك أن احتلال العراق العام 2003، وتنفيذ عملية سياسية فيه على أساس القسمة بين الطوائف والأقليات القومية، قد شكّل نقطة انطلاق رئيسية نحو تنفيذ مخطط التفتيت. وتلازم ذلك باستقلال جنوب السودان لاحقاً، وبقيام حركة تمرد في دارفور.

أما المحطة الأبرز والأخطر في مشروع التفتيت، فقد جاءت بعد ما عُرف بالربيع العربي. وكانت نتائجه كارثية بكل المقاييس. فلم يحدث مطلقاً في التاريخ العربي المعاصر، أن شهد الوطن العربي، ستة حروب أهلية في آن معاً، كما هو الحال الآن.

هناك حروب أهلية مريرة تشتعل في العراق وسورية واليمن وليبيا والسودان والصومال، فضلاً عن عمليات إرهاب شرسة، في مصر وتونس والجزائر. ولا يكاد يسلم منها بلد عربي واحد.

لقد انتقلت ثورات الحرية والكرامة، التي دشنت بالثورة التونسية، إلى حركات تطرف مسلحة، تقتل على الهوية. وغابت وسط اشتعال النيران، شعارات الثورة والحرية، وحل محلها التفجير والتكفير. وبدلاً من الدولة المدنية التي جرى التبشير بها، برزت «داعش» ودولتها المتخيلة، ليكتمل مشروع التفتيت الذي بدأه أيزنهاور بمشروعه ملء الفراغ.

بداية ربيع حقيقي، تطل من بلاد النهرين، ترفع شعارات العروبة، وترفض تقسيم العراق إلى حصص بين الطوائف، وتعيد لهذا البلد العريق حضوره التاريخي. فلعل هذا الحراك، الذي انطلق في القلب من جنوبه، ومن بين نخيله، يشكل انعطافة جديدة نحو وأد مشاريع التفتيت، من ملء الفراغ، إلى دولة «داعش».

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "

العدد 4731 - الخميس 20 أغسطس 2015م الموافق 06 ذي القعدة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً