العدد 4733 - السبت 22 أغسطس 2015م الموافق 08 ذي القعدة 1436هـ

الصين ودلالات الاحتفال بالذكرى السبعين ليوم النصر

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

دأبت الصين على الاحتفال بالمناسبات الوطنية أو السياسية التي ترتبط بالصداقة أو إقامة علاقات دبلوماسية مع الدول الأخرى، كما دأبت على الاحتفال بذكرى الهزائم أو الانتصارات الكبرى، وشعار متحف نانجين عن الجرائم التي ارتكبتها اليابان ضد الصينيين، وكذلك الاعتداءات من العديد من الدول الأوروبية وغيرها خير شاهد على ذلك. ولكن الصين في احتفالاتها دأبت منذ أمد على رفع شعار «إننا نغفر ولن ننسى»، وسجّلته في متحف نانجين.

هذا الشعار له مغزاه في علاقات الدول مع بعضها البعض وفي نفسية الشعوب وعبرة التاريخ. فالاعتداءات والأعمال الوحشية التي ارتكبتها اليابان ضد الصين وكوريا وغيرهما من دول شرق وجنوب شرق آسيا، ليست مسألة هينة، بل هي بالغة السوء. ولذا أقامت الصين بوجه خاص متحفاً في مدينة نانجين لهذا الغرض، وهو من أكثر المتاحف الصينية تنظيماً وترتيباً وسرداً للتاريخ الصيني، مع التركيز على صعود الحزب الشيوعي الصيني، والاعتداءات اليابانية ضد الصين وشعبها، خصوصاً ما يسمى نساء المتعة، حيث كان الجنود اليابانيون يأخذون النساء الصينيات للترفيه عنهم، وهذا أبشع ما حدث في تلك الحروب، وهو إهانة لكرامة الإنسان الفرد وإهانة الحس الوطني لشعب لديه اعتزاز بكرامته وبتاريخه وحضارته مثل الشعب الصيني.

ولكن النظام السياسي الصيني منذ وصول الحزب الشيوعي للسلطة رفع شعار «نغفر ولن ننسى»، وتحليل هذا الشعار يظهر ثلاث دلالات:

الأولى دور التاريخ في العقلية والحس الوطني الصيني بوجه خاص، ودول وشعوب شرق وجنوب شرق آسيا بوجه عام.

الثانية رغبة الصين في الدخول في علاقات طبيعية مع الدول الأخرى وخصوصاً اليابان بحكم العلاقات التاريخية والتأثير الحضاري والمصالح الاقتصادية والأبعاد الجيواستراتيجية.

الثالثة صعوبة نسيان جرائم بشعة ارتكبت من دولة ضد دولة أخرى ذات حضارة عريقة مثل الصين.

ولعل هذه الدلالات الثلاث تفسر لنا طبيعة العلاقات المعقدة بين دول شرق وجنوب شرق آسيا مثل اليابان. ورغم تغير مواقف تلك الدول من اليابان واتجاهها للتحالف بصورة أو بأخرى وتشابه النظم السياسية والاقتصادية، إلا أن العلاقات اليابانية الصينية هي أكثر تعقيداً، لارتباط ذلك باستراتيجية كل من الدولتين ودورها التاريخي وتطلعاتها المستقبلية. باختصار إنها ترتبط بسؤال لمن تكون الكلمة الأولى في السياسة الدولية لشرق آسيا والمحيط الهادي، وكيف يمكن التعاون بينهما مع الإبقاء على الاختلاف، أو ما يطلق عليه «تفاعل السياسة والاقتصاد في العلاقات الدولية». فالاقتصاد يجمع والسياسة تفرق، وهذه هي معضلة السياسة الدولية الأكثر صعوبة.

واحتفال الصين بيوم النصر على العسكرية اليابانية، هو احتفال مهم مثل احتفال روسيا على ألمانيا النازية أو احتفال الدول الغربية بالمناسبة ذاتها. فالهدف من استذكار الماضي هو عدم السماح بتكرار مآسيه وآلامه، وهذا لن يتسنى إلا بدراسة الماضي ووضع الخطط للمستقبل لبناء عناصر القوة الوطنية في مواجهة التحديات والمستجدات على الساحتين الدولية والإقليمية وفي الإطار الوطني.

ومن ناحية أخرى، تُثار في علاقات الصين واليابان ثلاث قضايا ترتبط بالماضي والمستقبل: القضية الأولى مسألة زيارة القادة اليابانيين لضريح ناكاسوني، أي الضريح الذي يضم بين جنباته رفات الجنود والقادة اليابانيين الذين قتلوا في حروب اليابان ضد دول شرق آسيا بما في ذلك أثناء الحرب العالمية الثانية. واعتداءات اليابان على دول شرق وجنوب شرق آسيا والتي اعتبرت في منظور السياسة الدولية «حرباً عدوانية»، ولذا نصّ ميثاق الأمم المتحدة في أحد مواده على أن اليابان وألمانيا وإيطاليا «دول معتدية وغير محبة للسلام» ولذلك حرمها من عضوية الأمم المتحدة عند إنشائها لعدة سنوات حتى تغيّرت السياسات والمواقف الدولية فتم إلغاء ذلك النص من الميثاق وتوقيع معاهدات سلام بين اليابان والولايات المتحدة، وفي مرحلة وقعت تلك المعاهدات مع الصين وروسيا. ومع هذا فمازالت الاختلافات قائمة على الجزر الشمالية بين روسيا واليابان، وعلى جزر بحر الصين الشرقي خصوصاً جزر دياوتاي بين اليابان والصين، وتطلق اليابان اسماً مختلفاً على تلك الجزر، وهو جزر سنكاكو. وهذه الجزر وأشباهها في بحر الصين الشرقي بوجه خاص واضح موقفها القانوني من زاويتين: الأولى البعد التاريخي فهي في إطار الإشعاع الحضاري التاريخي الصيني على تلك الجزر وتواجدها ووقوع بعضها في المياه الإقليمية لبعض الجزر الأخرى. والثانية إعلان القاهرة لعام 1943 الصادر عقب لقاء الرئيس الصيني تشانج كاي تشيك زعيم حزب «الكومنتانج» مع الرئيس الأميركي روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني تشرشل، وهو إعلانٌ عبر عن الاتفاق على تسويات ما بعد الحرب العالمية الثانية. ونصّ على انسحاب اليابان من جميع الأراضي والجزر التي احتلتها قبل الحرب العالمية الثانية وأثناءها.

والقضية الثانية هي ما تتضمنه كتب التاريخ اليابانية من إشادة بحروبها وقادتها العسكريين في فترة الصعود الياباني التي بدأت منذ إصلاح «الميجي» العام 1866 حتى هزيمتها في الحرب العالمية الثانية. وقد اعتبر ذلك من وجهة نظر اليابان سرداً للتاريخ والتطور السياسي، ولكنه من وجهة نظر الصين وكوريا ودول جنوب شرق آسيا يعتبر إشادةً بالنزعة العسكرية الاستعمارية التي عانت منها تلك الدول.

والقضية الثالثة التعويضات عن الجرائم والاعتداءات اليابانية ضد الصين ودول شرق وجنوب شرق آسيا، نتيجة الأعمال الوحشية التي ارتكبت ضد شعوب تلك الدول وخصوصاً ما النساء. وهذه مشكلة لها حساسيتها بما عبر عنه شعار متحف «نانجين» القائل: «نغفر ولن ننسى». وترى الصين أنه لا يمكن تعويض مثل هذه الإساءة البالغة السوء، وما تزال تحدث مظاهرات نسائية ومظاهرات وطنية ضد اليابان في ذكرى هذه الأحداث. وعودة الاحتفال بيوم النصر تعبير عن ذكرى الماضي ولكنه أيضاً رسالة للمستقبل وضرورة بناء علاقة جديدة مبنية على القوة الوطنية الذاتية، وعلى خلق مصالح وروابط مشتركة.

والسؤال: هل تستطيع دول شرق وجنوب شرق آسيا تجاوز الماضي والتطلع إلى المستقبل؟ وهذا أمر ليس سهلاً تحقيقه حتى لو رفعت شعارات تتعلق به، لأنه يرتبط بالتاريخ وكثير من الشعوب تلجأ إلى التاريخ كركيزة للمستقبل، وكإثبات للدعاوي والحقوق التاريخية، وأحياناً لإثبات ذاتيتها ونحو ذلك. وهذه قضية ماتزال مطروحة باستمرار ليس في آسيا بل أيضاً في روسيا والدول الغربية ودول الشرق الأوسط وأفريقيا وغيرها.

وفي هذا السياق لا ينبغي أن نغفل أو نتجاهل دور مصر والرئيس السيسي في مشاركة كل من روسيا والصين بيوم النصر. ومن قبيل التذكرة فإن مصر كانت من الدول التي أعلنت الحرب علي دول المحور، ولهذا أصبحت من الدول المؤسسة للأمم المتحدة، وشاركت في صياغة ميثاقها وفي صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ومصر لم تنضم للأحلاف العسكرية في ظل الحرب الباردة ولا للأحلاف العسكرية في مرحلة الصراع الدولي الراهن في ظل سياسة الهيمنة، ودعت لحركة عدم الانحياز في الماضي وشارك الرئيس الصيني في احتفالات الصين وروسيا بيوم النصر الذي ليس حكراً على مجموعة من الدول دون أخرى.

ومصر عانت من نتائج وآثار الحرب العالمية الثانية بغرس ملايين الألغام في صحرائها الغربية، وقامت على أرضها معركة العلمين التي هي من أكبر المعارك بين الحلفاء والمحور، ومن المعارك التي ساهمت في هزيمة المحور. كما عانت مصر من الحرب الباردة والاستقطاب الدولي، وهي تعاني الآن من سياسة الهيمنة وفرض الإرادة من بعض الدول الكبرى على الدول النامية. وهذا يظهر الترابط الدولي والتعاطف المصري مع الصين وروسيا، وهو تعاطف يعبر عن التفاهم الحضاري والالتقاء المصلحي مع هاتين الدولتين اللتين وقفتا مع مصر في حرب 1956 وفي حرب 1967 وما تزالان تؤيدان الموقف المصري من الضغوط التي تمارس ضدها وتمس بسيادتها واستقلالها.

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 4733 - السبت 22 أغسطس 2015م الموافق 08 ذي القعدة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً