العدد 4736 - الثلثاء 25 أغسطس 2015م الموافق 11 ذي القعدة 1436هـ

هدر الإنسان العربي... كارثة وجودية

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

أجرى المفكر مصطفى حجازي دراسته حول «الإنسان المهدور» العام 2005، وكأنه يتنبأ بما ستؤول إليه حال الشعوب بعد مرحلة الربيع العربي والثورة المضادة وحالة التدمير التي تمر بها المجتمعات العربية. ولأهمية البحث نسلط الضوء على أبرز ما تلامسه الدراسة لظاهرة الهدر للإنسان العربي بصفته كارثة وجودية.

ما هو الهدر؟

يعرف حجازي الهدر بسوء الإدارة، أو الإنفاق على مشاريع غير مجدية، أو وضع اليد على الأموال العامة وسلبها عبر مشاريع وهمية، أو مختلف العمليات والسمسرات وصفقات الإثراء غير المشروع. وهو استنزاف لثروات الكوكب وتهديد لتوازنه الحيوي، إذ يتخذ أشكالاً كارثية كالحروب التي تخاض بهدف الغلبة وفرض السيطرة بما تستنزفه من موارد وعمران وبشر، إنه حالة شائعة عالمياًً، لكنها تمثل قاعدة في عالمنا العربي.

أما هدر الإنسان فيعني حجازي، التنكر لإنسانيته وعدم الاعتراف بقيمته وحصانته وكيانه وحقوقه، والمؤسف أنه حالة ليست نادرة إنما متفاوتة من إباحة إراقة الدم في فعل القتل أو التصفيات كحد أقصى، إلى سحب القيمة الإنسانية والتنكر لها، فيفقد الإنسان مكانته أو منعته وحرمته، وقد يتخذ أشكالاًً متعددة تتمثل في عدم الاعتراف بالطاقات والكفاءات، أو الحق في تقرير المصير والإرادة الحرة، وحتى الحق بالوعي بالذات والوجود، الأمر الذي يفسح السبيل أمام مختلف ألوان التسخير والتحقير والتلاعب وإساءة الاستخدام. وبالتالي فهو يتراوح بين الحالات الفظة الصارخة «هدر الدم والتصفية» وبين الحالات الخفيفة المداورة أو المقنعة بمختلف التبريرات.

وقد يكون الهدر مادياً أو معنوياً أو حقوقياً، ويتم على خلفية الاستباحة؛ إذ يسقط الكيان الذي تم إبطال قيمته فيصبح مهدوراً أو قابلاً للهدر من دون شعور من يقدم على فعل الهدر بالمسئولية.

ويضيف «الهدر الإنساني» أكثر جذرية من القهر، والأخير يعني الاعتراف بكيان الإنسان على الرغم من ترويض إرادته وإخضاعه وإتباعه، إلا أنه - أي القهر - يبقى خارجياً ويمكن الاحتماء منه بالتمرد الداخلي، وبالتالي لا يتمكن من النيل من حرية الإنسان الداخلية. كما إنه اعتراف مشروط بكيان الآخر: أعترف بك مادمت تخضع لمشيئتي أو رغبتي، أما في «الهدر» فهناك سحب للاعتراف أصلاً بقيمة الكيان الإنساني أو الطاقات أو الوعي أو المكانة، وهنا تكمن خطورته.

«الهدر الإنساني» منقطع الصلة بالديمقراطية ويتم بدرجات، تبدأ بتصفية الخصوم مادياً أو كيانياً وبعزلهم وإقصائهم، وينتهي بالتلاعب الخفي بهم أو التحكم الناعم، والأخير به هدر جزئي يسبب معاناة واختلال للتوازن الوجودي بما يفتحه من أزمات كيانية مختلفة الشدة والدرجات. والاستبداد هنا ليس حجباً للديمقراطية ومنع الحقوق، بل هو علاقة مختلفة نوعياً، تقوم على اختزال الكيان الإنساني للآخرين إلى مستوى «الرعية»، بما تعنيه لغوياً القطيع من الأغنام الذي يمتلكه السلطان ويحميه ويرعاه، وقد يهلك من دون هذه الحماية والرعاية، لأنه يفتقد القدرة أو إرادة الإمساك بزمام المصير. والنتيجة: لا عبور للديمقراطية من دون استرداد الإنسان لحقه في إنسانيته ومكانته، ونقطة على السطر.

مستويات الهدر وأشكاله

ثمة أشكال ومستويات متفاوتة يفككها حجازي منها العام ومنها الخاص أو النوعي، أما العام برأيه فيطال شرائح كبرى من الناس أو المجتمعات، كما تتضمن هذه الفئة حالات الطغيان والاستبداد وحكم المخابرات والعصابات على اختلافها، والأصوليات المتطرفة التي تتنكر لوجود الآخرين بل وتحاربهم، وكذلك نهب القلة للثروات والخيرات وحرمان الغالبية ودفعهم للمستوى النباتي من الجوع... أي توفير رمق العيش.

والفقر كحالة اقتصادية وحرمان مادي يدفع بالجماعة وأفرادها إلى ما دون «خط البشر وجودياً وكيانياً»، الذي يندرج في إطاره الأسر، التعذيب، التهجير، الحصار، التصفيات الجماعية، وجميعها تؤدي في درجاتها القصوى إلى هدر الكيان الإنساني وسحب كل قيمة منه. وفي حالة هدر الجسد وحرمته وحدوده استباحة مادية ومعنوية تؤدي للانكسار والهوان الكياني وإلى مستوى الشيء الذي يمكن ممارسة أي شيء عليه. وهنا تنهار حدود الأخلاق والحرمات ويصبح كل شيء مباحاً ويبدأ الاستسلام والخضوع على خلفية الشعور «بانعدام القيمة المتعلَّم ( Learned worthlessness)، فالكيان اللاشيء يقبل أن يُمارس عليه أي شيء، كما يتدهور إلى ممارسة أي شيء.

من حالات الهدر العام التي حدّدها حجازي، إضافةً لما سبق، هدر الطاقات والوعي والفكر، وجميعها تولد مآزق وجودية يصعب تحمّلها ومجابهة جحيمها. فليس من اليسير على الإنسان تحمّل جحيم أن لا يكون، خصوصاً والوجود الإنساني محكوم بالقيمة، وباعتراف الآخر بقيمتنا الذاتية كمدخل وشرط ضروريين لاعترافنا بأنفسنا ومكانتها وقدرتها وإيجابياتها.

وثمة أمر مهم يشير إليه بشأن الوعي المهدور في معاناته الوجودية وتذبذباتها التي تجعله بين الاكتئاب والمرارة والتبلد، وبين التمردات الداخلية والحرب على الذات المعاقة في كينونتها، هنا لا فرق بين المحرومين مادياً أو الميسورين والمترفين، وخصوصاً مع محاولات العولمة إغراق الشباب في عالم الإثارة والمتع الحسية ومظاهر الاستهلاك الآني وكأنها غاية المُنى في تحقيق الوجود وامتلاك الكيان ودلالته. فهذا الهدر يصيب المواطنة ويختزل قيمة الانتماء إلى ثقافة الوطن في رقم حساب وبطاقة ائتمان، ومظاهر رفاه العيش التي يتفنن الإعلام بتزيينها للناس وللشباب، فما تصنعه نظم الاستبداد والعولمة يؤدي في نهاية المطاف إلى تدهور مفهوم الوطن وغيابه ما دام الوجود والمرجعية مرهونين للقبيلة أو العشيرة أو الطائفة. إنها حالة حصار تفرض على الإنسان في هذا الحيز، وهدر الوعي والعقل ذاته باعتباره مدخلاً للتفكير والعطاء الفكري.

ويشرح حجازي أكثر عن دور الاستبداد والطغيان في الهدر: «حين تحيط المخابرات بالإنسان من كل مكان وتحصى عليه أنفاسه، ويعتبر السلطان بأنه مالك للأرض وما عليها ومَنْ عليها، وكل غنم يصيب إنسان هو مكرمة أو منّة منه، وأن له حق التصرف بالموارد والثروات والمقدرات والمصير والبشر، فحق انتماء الإنسان والمواطنة هنا يهدر ويصادر، فيصبح غريباً في وطنه محروماً من الانطلاق الواثق بين المجالات، عندها تتحوّل المواطنة من حق إلى منة وهبة تسحب أي وقت، تماماً كما تسحب إرادته وحقه في الاختيار وتقرير المصير».

فسحة أمل

إنها كارثة وجودية تؤثر سلباً على التنمية، فالإنسان المستلَب في وطنه ومجاله الحيوي لا يمكنه العطاء والبناء، ويكتفي بالتفرُّج السلبي في حالة من الغربة. وعند البعض ينحدر الوجود لمستوى الرضا بمكسب مادي يغطي الحاجات الأساسية، أو قد يندفع للتصعلك متنكراً لشرعية السلطان وناسه وصولاً للتنكر للوطن ذاته، في نوع من الهدر المضاد، وأشد حالاته قد تتخذ طابع هدم الهيكل عليه وعلى أعدائه، فيما بدأ يشيع من سلوكات تطرف جذري.

وعليه... هل ننتهي عند حدود هذا العالم السوداوي؟

بالطبع لا. فخلاصة حجازي تستفز روح الأمل بعد جولات التدمير التي أدخلت مجتمعاتنا المحلية وناسها وطاقاتها الحية في وضعية التاريخ الآسن. فعلى الرغم من أن الهدر الإنساني حالة شاذة إلا أنه لا يتكرس نهائياً، لماذا؟ لأن الحياة تجدّد ذاتها، يزول مهزومون فيظهر بديل لهم، تجدد طاقة الحياة اندفاعاتها من خلالهم، ويترك الاستسلام مكانه للمواجهة والمجابهة المدفوعة بتفاؤل ظفر الحياة على الموت.

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 4736 - الثلثاء 25 أغسطس 2015م الموافق 11 ذي القعدة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 5:23 ص

      اكثر من كارثه

      المواطن العربي هو السبب فسكوته عن حقوقه كارثه وان تحرك بجهل تحركه غرائزه العربي التسلط من ثقاقته من رب الاسره الي المجتمع ورجال الدين والمثقفين والحكام هذه الامه لاامل فيها هذه الامه تنتحر

    • زائر 1 | 2:57 ص

      استعراض جميل

      قراءة جميلة واستعراض مشوق

اقرأ ايضاً