العدد 4748 - الأحد 06 سبتمبر 2015م الموافق 22 ذي القعدة 1436هـ

«أمان الماء... غدْر اليابسة»

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

يكتب محمود درويش في فصل «ذاهب إلى الجملة العربية في الخامس عشر من أيار»، من كتابه «يوميات الحزن العادي»: «وقفتُ على هذه القارة المُحاصرة بالبحر والمحيط، وقلت: أنا قادمٌ من ذروة السقوط. كانت هذه الأرض شبيهة بثور جريح يسقط من قمَّة الرجاء إلى قاع الهزيمة المتناسلة؛ ولكنه كان يرتبط بالكون بقرْنه الحاد الذي مازال يطفو على سطح اليابسة. طافح بالنفط والكسل، والشعوب الممنوعة من الممارسة والمُجهَّزة بنتائج استفتاء جاهزة (نعم)».

وبذكر البحر والمحيط؛ نحن أمام شعوب وجدت ملجأها الأخير في المجهول الذي يخبّئه لها البحر أو المحيط؛ والموت المريح الذي ينجح في النهايات التي فشلت فيها نهايات الحياة التي لا بداية لها؛ وبالضرورة: لا راحة فيها، بالراهن من السياسات.

موجة النزوح واللجوء البشري العربي الأكبر في العصر الحديث؛ متمثلاً في ملايين السوريين؛ يعيد إلى الأذهان صناعة المأساة، ولكن هذه المرة بوصفات محلية ووطنية؛ تجاوزت الوصفة الصهيونية في العام 1948، وما تمخَّضت عنها من مذابح، وتسلل ضروري كالسيل بدأ من دول المحيط، وامتد إلى قارات العالم.

بالفهم غير العاطفي، ثمة محتل وشعب لا وطن له، اتفق العالم على اقتطاع جزء من جغرافية العرب كي يكون وطناً له؛ ولكن ما لا يحتاج إلى عاطفة لفهمه، ذلك الدم الذي انهمر في صورة تكاد تكون سيريالية من أجل تثبيت باطل باسم الحق، وهذا الشحن الذي لا يتوقف على مدار الساعة ليهود يبحثون عن مخرج لتيههم في الأوطان التي ينتمون إليها؛ كي يذهب أصحاب الأرض في دورة تيه بديل.

يكاد كل ذلك يدخل مساحة الذاكرة بما لها وعليها؛ وفي النهاية، ثمة من يراهن على النسيان الوافر في هذا الجزء من العالم؛ وخصوصاً أمام المآسي التي لا أفق أمل يشي بنهاياتها؛ وتظل منجم استدرار للعاطفة في الكلام والنصوص المنفصلة عن الواقع؛ أو تلك التي أصابها الحنين في مقتل!

لم يتدفق الفلسطينيون عبر البحر بحثاً عن ملاذات تتفهَّم قبول تيههم المؤقت. استوعبتهم دول على مضض؛ وأحكمت دول إغلاق حدودها في وجوههم، وهو ما يحدث لقطاع كبير من السوريين اليوم.

اليوم نحن إزاء ترتيب تيه جديد لشعب آخر (الشعب السوري)، يصر حاكمه على شرعيته التي يقررها أعضاء مُرْتَهنون لإرادة بيت الحكْم، في مجلس أقل من صوري، لم يتردد وخلال ساعات في تغيير أكثر من مادة في الدستور «العتيد» كي يتم انتخابه رئيساً ووريثاً «شرعياً» لوالده «رئيس الجمهورية!

التيه الجديد الذي لا يتحمَّل «الرئيس» مسئولية تدشينه وحده؛ بوجود هذا الخليط المنتمي للبشر ظلماً، ومن كل أصقاع الأرض، وهو يمثل أبشع وأحقر وأتفه وأحط النماذج الوحشية التي تعاقبت على الجنس البشري منذ فجر التاريخ حتى اليوم، من الإرهابيين والقتلة وأصحاب السوابق والفاشلين والشواذ. هل يقنع مثل ذلك الاستدعاء للواقع على الأرض هناك؟!

ماذا لو كانت سورية تدار بعقلية الدولة لا «المزرعة»؛ يحكمها القانون والعدالة والمساواة؛ في تجربة محيط ينذر بالعواصف والأنواء وأخطار التحولات؟ هل ثمة أفق متاح لأن ينبت فيه كل هذا الإرهاب والعصابات المُشكَّلة من أحط البشر وانتكاسات البيئات؟!

لا يجد الإرهاب بيئته المريحة إلا في ضياع الحقوق، من دون أن نغفل طبعاً القارَّ والثابت في نفسيات تلك الوحوش التي لا تبحث عن سبب كي تفتك وتقتل وتخرِّب الحياة، ودون نسيان الجهات المُرْضعة لها.

مثل هذه التساؤلات وغيرها، لن تعيد الإرهابيين من حيث جاءوا؛ ولن تُنَزِّل قناعة على مؤسسة الحكم للاقتناع بالمراجعة، في هذا الفصل التراجيدي الذي تمر به البلاد؛ لكن التساؤل الذي سيخلِّف من ورائه عار ما يحدث للاجئين السوريين وقد أصبحوا طعماً للبحر والمحيط، وجبل من الإهانات على الحدود العربية، وخجل قاتل على حدود «الكفَّار» الذين تلعنهم بعض منابرنا صباح مساء، وقد فتحوا بيوتهم وملاجئهم لأصحاب التيه الجديد، ولن يكون آخرهم رئيس وزراء فنلندا: هل تسهم المآسي «وطنية الصنع» في تجاوز المأساة والتيه الفلسطيني بأضعاف مُضاعفة؟!

صور الأطفال الذين قذف البحر بأجسادهم الطرية، وصور أخرى، تكشف حجم المأساة والكارثة التي يشهدها السوريون، ويتفرج عليها العرب وبعض دول العالم.

كل ذلك من ورائه واقع لا يدلُّ على الحياة، وأصبح معه الموت هو الخيار الذي لا تردُّد أمامه.

ولم تتجاوز الشاعرة الصومالية المولد، البريطانية الجنسية، وارسان شاير، الحقيقة حين قالت عن مأساة تدفق اللاجئين السوريين «عليكم أن تُدركوا أنه ما من أحد يضع طفله في قارب؛ ما لم يكن الماء أكثر أماناً من اليابسة»! ولم يكتب درويش «الفِراش المحمول على الرأس، والوطن المحمول في القلب مربوطان بخيط واحد. إذا استراح الفِراش ضاع الوطن»؛ لتكون عبارة محفورة في مصير الفلسطينيين وحدهم؛ وتيههم الطارئ والاصطناعي؛ بقدر ما كتبتْها نبوءة الشاعر الذي يرى بحاسَّة الفقد، ويستشعرها أكثر من استشعار حاسَّة الحضور، ويرى بحاسة التحولات والعدوى الفلسطينية التي ستطال شعوباً أخرى.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4748 - الأحد 06 سبتمبر 2015م الموافق 22 ذي القعدة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً