العدد 4781 - الجمعة 09 أكتوبر 2015م الموافق 25 ذي الحجة 1436هـ

نحن والقَسْوَة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

من الأشياء التي حَكَمَت «جزءًا» من تاريخ الإنسان هي القَسْوَة. وما أعنيه بالقَسْوَة ليس الصلابة في الجسم، بل في القلب والتي هي «ذهاب اللِّين والرحمة والخشوع منه». فقد تولَّد عن احتكاك البشر فيما بينهم مشاهد للقَسْوَة في المجتمعات الأولى، ثم انتقلت إلى مشاهد أوسع حين كانت الدول والجماعات (حتى مع تمدنها) تتنافس فيما بينها. ليس أوسع فحسب بل أكثر دموية ورعباً.

وربما كانت القَسْوَة الأكثر ألماً في نظر الإنسان تلك التي تتعامل مع حياة البشر باستسهال كبير، وفي الوقت نفسه إنهاء حياتهم بطريقة بطيئة، حين الحِراب والسَّكاكين والسيوف كما كانت عليه المجتمعات ما قبل البارود، إذ تنطوي عملية القتل على دراما تفصيلية، تتعدّد فيها صور الموت، منْ سَلّ السيف أو السِّكين إلى حَزِّ الرقاب، إلى سماع التأوّهات والتوسلات ثم جَرَيان الدَّم بتدفق.

وهو ما اعتمد عليه تنظيم داعش في تعاطيه مع الآخرين وطريقة الذبح أو الحرق أو الإغراق وخلافه، إذ كان هَدَفُه من ذلك ليس تحقيق عملية قتل أو تشفّ فقط بقدر ما هو إيغالٌ في تقطيع لحظات الموت، حيث تتحوَّل اللحظة الواحدة إلى بضع ساعات، فيصبح الإنسان في خوف وقلق لا ينتهي، ليصل إلى حالة فشل عميق في تعاطيه مع الآخرين ومع محيطه ومستقبله.

والحقيقة أن دراسة حالات القَسْوَة لهو أمر مهم؛ كي نعرف دوافعها، وكيف يُمكن أن نحدّ منها. وعندما نراجع المكتبات العربية والأجنبية نرى مَنْ كَتَبَ عن ذلك، لكن ضمن سِيَر شخصيات حاكمة كانت تتسم بالديكتاتورية، أو حتى شخصيات عسكرية تمثّلت فيها القَسْوَة خلال المعارك والحروب، أي أنَّ الأمر لم يكن يخلو من حالة درامية، إلاَّ أن دراسة ذلك السلوك من خلال رصد نفسي وعلمي خاضع لتفسيرات عميقة لم يُكتَب عنه كثيراً. لذلك، فإن كتاب كاثلين تايلور على سبيل المثال والمسمَّى «القَسْوَة .. شرور الإنسان والعقل البشري» يعتبر واحداً من الكتب المتخصصة التي كُتِبَت عن القَسْوَة، وهو جدير بأن يُطَّلَع عليه لفائدته.

فكرتان تخصّان القَسْوَة تطرحهما مؤلفة الكتاب: الفكرة الأولى تقول إن البعض يذهب إلى أن القُسَاةَ يرتكبون أفعالهم وهم مُدركون لها. ولو خُيِّروا بعد فعلهم هذا لفعلوا الأمر ذاته. فالمجنون لا يُنظَر له على أنه يفعل وهو مُدرك لفعله، لذلك فـ «القَسْوَة تنطوي على التعمُّد والاختيار الحر والمسئولية الأخلاقية لدى الفاعل»، بحسب وصف تايلور وهو أمر صحيح.

فلو تتبعنا نماذج للقُسَاةِ على مرّ التاريخ سنرى أن السَّواد الأعظم منهم متعلِّمون، وينتمون إلى عوائل وسطى وآخرون إلى طبقات نبيلة (بحسب توصيفات القرن الثامن عشر). فالقُسَاة في الشرق منذ القِدَم وفي الغرب أيام حكم البوربون ثم زعامات القومية كهتلر وموسوليني وحتى اليوم هم أناس متعلِّمون في أرقى الجامعات وبالتالي فهم مُدركون لأفعالهم جيداً.

حتى الجماعات المتطرفة اليوم، العديد من منتسبيها متعلِّمون. بل حتى زعيم تنظيم الدولة الإٍسلامية (داعش) وهو إبراهيم عواد إبراهيم علي البدري السامرائي المكَنِّى بأبي بكر البغدادي، هو متعلِّم حتى المرحلة الجامعية وبالتالي هو مُدرك لما يقوم به ومسئول عنه. ما يعني أن نظرية إدراك الفعل صحيحة. نعم، يمكن مناقشة الفكرة من جوانب نفسية مضمرة لدى الفاعل.

الفكرة الثانية تقول إن الفارق بين مَنْ يقوم بإهانة شخص وبين مَنْ يقتله هو في المنسوب، وليس في أصل القَسْوَة رغم الفارق. وهو أمر جدير بالتأمُّل فعلاً. ولو توسَّعنا في هذه الفكرة سنجد أنها واقعية تماماً. ففي الوقت الذي تتهيأ فيه الظروف كي يقوم شخص بإبداء قولٍ مشين ضد شخص آخر من منطلق عنصري، قد تتهيأ ظروف أخرى لشخص ثانٍ ليقوم بإيذاء آخر جسديّاً. وقد تتحوَّل الظروف بين الاثنين ليتبادلا الأدوار مدفوعين بالبيئة التي تُحرضهما على ذلك.

ولو تخيلنا المجتمعات المتكارهة أو الدول المتحاربة على أسس طائفية أو إثنية وخلافها، فإننا سنجد أن الحواضن الاجتماعية للغرماء عادة ما تُبدي فرحاً إزاء الخسائر البشرية في الطرف الآخر، وهو ما يعني أنها راضية عن ذلك، على رغم أنها لم تقم بالفعل مباشرة. يكفي أن تبتهِج لحالة قتل على أسس سياسية أو طائفية وعنصرية كي تكون في المدار ذاته للقَسْوَة.

قبل عامين إلاَّ يومين من الآن تحدثت عن جنازة الحاخام الإسرائيلي المتطرف والقاسي والأب الروحي لحركة «شاس» اليمينية المتشددة عوفاديا يوسف، الذي كان يقول: «اليهودي عندما يقتل مسلماً فكأنما قَتَلَ ثعباناً أو دودة» وكيف أن جنازته شارَكَ فيها 800 ألف إسرائيلي! أي أن 12.3 في المئة من سكان «إسرائيل» شاركوا في تلك الجنازة، حتى عُدَّت أكبر جنازة في تاريخ «إسرائيل»، بل وفاقت حتى جنازة مؤسس الدولة العبرية، ديفيد بن غوريون! ترى، ماذا يعني أن يُشارك 800 ألف إسرائيلي طواعية في تلك الجنازة؟! أليسوا قُسَاة مثله ويأملون في أن يقتلوا أي مسلم يرونه؟!

الحقيقة، أن التساؤلات كثيرة حول القَسْوَة ونشوئها وظروفها: ما القَسْوَة؟ ولماذا توجد أصلاً؟ ومَنْ الذي يُقررها؟ وكيف تتكوّن لدينا المشاعر والأحاسيس؟ وكيف تترسّخ لدينا المعتقدات؟ ولماذا نحن قُسَاة؟ ولماذا توجد السَّاديّة؟ والأهم من كل ذلك: هل بإمكاننا التوقف عن القَسْوَة؟ هذه هي التساؤلات الصّلبة التي يجيب عليها الكتاب، والتي من المفترض أن ندركها.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4781 - الجمعة 09 أكتوبر 2015م الموافق 25 ذي الحجة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 5:10 م

      احم احم

      تحليلك متعب ؟ داعش هم بقايا نظام صدام وهم مطرين لحكم ارض لزمن محدد وارعاب الناس ونشر الفوضى حتى يفلتون من العقاب مو ازيد ؟
      وراء داعش هم خبراء عسكريين وضباط وبقايا حزب البعث المقبور ؟ وما في شي جديد لحد الان غير القتل والدمار ؟ وهذا خيار اتخذه العسكر منذ الانقلاب على الملكية تتابعت الاغتيالات والانقلابات من زمن ثورات الضباط الاشرار ؟
      اليوم تشاهد بعينك ما حصل في داك الزمان لكن اليوم بسم الربيع العربي نفسهم الثوار عجبتهم الفوضى وراحوا يقطعون الايادي والرؤوس وبنوا المحاكم ونسوا الشوارع والمدارس

    • زائر 3 | 4:24 ص

      القسزة

      لا ننسى ايضا ان الذي يطبق مثل هذه الامور ينتظر نتائج ايضا فعند نشر داعش مثلا فيديو لقطع رقبه معتقل لديهم فهم يريدون نشر الخوف مثلا او تقليل عزيمه الذين يواجهونهم فكلما كان القائد لهذه الامور متعلما تراه يدرك مايفعل و يتفنن فيه ايضا! كي يرسخ وجوده في المكان وذكره بالزمان وهناك جوانب كثيره في هذا الامر ولكن لا اريد الاطاله

    • زائر 2 | 2:18 ص

      موضوع مهم

      استاذ محمد، موضوع المقال في غاية الأهمية، واعتقد ان مقالاً واحداً لن يغطي كل جوانب الموضوع وأبعاده، فالقسوة لها أسباب و دوافع و وقد تكون تراكمية وقد تكون لحظية و مؤقتة، للذلك اتأمل منك ان تتوسع في الكتابة عنه لأنه فعلاً يمس أكثر المجتمعات (المتحضّرة)!
      دمت بخير

    • زائر 1 | 1:02 ص

      الظلم من شيم النفوس فإن تجد* ذا عفة، فلعلة لا يظلم.

      يقول بعضهم أن العدوانية والقسوة فطرية في الإنسان لكن التربية والاجتماعية بحسبها ومصلحة الإنسان تهذب الجانب العدواني ونزعة القسوة عند الإنسان.

اقرأ ايضاً