العدد 4799 - الثلثاء 27 أكتوبر 2015م الموافق 13 محرم 1437هـ

البحث عن سلمى

هناء بوحجي comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

ظلّت عبارة حجي جابر على لسان بطل روايته «مرسى فاطمة» الهارب من وطنه «أجزم أن هؤلاء الذين يركضون إلى جواري، وبقدر رغبتهم في الإفلات من الوطن يشعرون بالألم وبقدر حرصهم على الحياة خارجه، يفزعهم أن يموت يوماً بداخلهم، أو يتسرّب بهدوء من بين ضلوعهم قبل أن يتمكنوا من دسه في آخر مخابئ الروح»، تئزُّ في رأسي كلما رأيت طوابير المهاجرين السوريين تتكدس في انتظار إشارة الرأفة من الدول التي تمر بها، والدول التي تستضيفها. وكل منهم يحمل أغلى الأغلى من ممتلكات عمره في صرّة لم تكن لتكفي قوت يوم واحد لو كان ما تحمله غداء وقلباً ينوء بثقل وطن بكامله. هذه الدول تشهد ورطة كبرى وقرارها في هؤلاء اللاجئين موزّعٌ بين التزاماتها المحلية تجاه برامج إنفاقها وبين التزاماتها الإنسانية بشكل عام.

الهجرة ليست ظاهرة غريبة أو طارئة على الديموغرافيا، فبحسب تقرير إدارة الأمم المتحدة للشئون الاقتصادية والاجتماعية، بعنوان: «اتجاهات الهجرة الدولية، مراجعة العام 2013»، بلغ عدد من يعيشون خارج أوطانهم نحو 232 مليون شخص. وفي حين لا تشكّل نسبة المهاجرين سوى 3.2 في المئة من إجمالي سكان العالم، إلا أن نصيب الدول المتقدمة يجاوز 11 في المئة من إجمالي سكانها مقارنة بأقل من 2 في المئة من سكان الدول النامية، وهو أمر طبيعي، فلا يمكن أن يفكّر الإنسان في الهجرة وترك موطنه الأم إلا بحثاً عن الرزق والأمان والمستقبل الأفضل لأبنائه.

ما دفعني إلى الكتابة ليس تكرار أخبار نتابعها جميعًا عن اللاجئين الذين أصبحوا جزءا أساسيا من وجعنا وتذكيرنا بقلة حيلتنا، وإنما لما لفتني في الكثير من الموضوعات التي تتناول شئون اللاجئين من إشارة إلى البلدان الأصل بأنها «البلدان الأم». ثمة غرابة في هذه التسمية التي تناقض نفسها في أوطاننا على رغم اتفاق ثقافات كثيرة على هذه التسمية، التي تعتبر هي الأدق، كما عرَّفتها القواميس بأنها موطن الولادة والمكان الذي يضم أسلاف الفرد ويتعلم فيه أوائل الأمور في حياته فيرتبط به بعلاقة عاطفية لا تنقطع، وإن عاش حياته كلها، فيما بعد، خارجه. ثقافات عديدة تستخدم تعريف الوطن الأم، فهناك الأم روسيا (Mother Russia) والأم الهند (Baharat Mata) كما يسمي الفرنسيون فرنسا بـ (la mere patrie)، والاسبان (la madre Partia) وهكذا.

ارتباط الإنسان بوطنه الذي ينتمي اليه يشبه تماما ارتباط الأم بأطفالها في علاقة مشيمية تتطور فيما بعد إلى علاقة لا يشبهها شيء، فهي لا تتبدل ولا تتغير إلا إلى الأقوى والأقرب وتظل الحاجة إلى الوطن كالحاجة إلى الأم تكبر مع الوقت فلا يكفُّ الإنسان مهما كبر عن حاجته إلى الحنان والأمان الذي يجده عند أمه، فهي الملاذ والحضن الواسع الذي لا يسأل أن كنت على حق أم مخطئا، الأم تمنحك الأمان أولاً، بما يكفي ليخجلك إن فكرت أن تكذب، وإن فعلت يظل ضميرك قلقاً حتى تعود وتعترف وتعتذر وتصحح خطأك. الأم هي الإنسان الوحيد الذي يمارس الإيثار في أجلّ صوره تجاه أبنائها. قد تفرض الظروف أمّاً بديلة وقد يكون ذلك رحمة لمن يفقد أمه لأي سبب، لكنها تظل أمًّا بديلة في التسمية وفي العاطفة.

صديقتي العراقية التي عاشت زمنًا طويلاً في أميركا منذ الثمانينات وقررت الحصول على الجنسية الأميركية بعد أن يئست من تحسّن الحال في بلدها لتؤمّن مستقبلا أفضل لأبنائها الذين ولدوا في أميركا ولم يعرفوا وطنًا غيرها، قالت إنها تكبدت دفع أموال طائلة ووقتا وقلقا حتى تصل إلى يوم تسلم الجواز الأميركي، الذي اكتشفت أنه يوماً حزيناً كمن أخذها من حضن أمها وأمّن لها كل سبل الحياة الكريمة نظير حنان لا يعوّضه شيء.

فما بال أوطاننا قد تخلّت عن أمومتها وتركت أبناءها يتخبطون في الأرض بحثاً عن أم بديلة! ففي حين تنشغل أوطاننا الأم بتضييق العيش على أبنائها متغافلة عن إنسانيتها ودورها الطبيعي في حمايتهم وتوفير سبل الحياة الكريمة لهم، ومتخلية عن امكاناتهم الابداعية لبنائها وتطويرها، تنشغل الدول المتقدمة في المقابل بعقد المؤتمرات وتبذل الوقت والمجهود في تعديل قوانينها؛ كي تستوعب أكبر قدر ممكن من الأشخاص اللاجئين إلى الهجرة كخيار لحياة أفضل، وتنظر في سبل الاستفادة منهم ودمجهم في برامج التنمية كما ذكر وكيل الأمين العام للشئون الاقتصادية والاجتماعية، وو هونغ بو، في مناسبة إطلاق التقرير السابق أن «الهجرة يمكن أن تقدم، عندما تكون محكومة إلى حد ما، مساهمة مهمة جدا في التنمية الاجتماعية والاقتصادية في كل من بلدان المنشأ وبلدان المقصد، وأن الهجرة توسع الفرص المتاحة للأفراد». وفي هذا السياق احتفت أميركا التي تنفرد باحتضان نسبة كبرى من مهاجري العالم، هذا الشهر، بما اعتبرته إنجازا إنسانيا، بمرور خمسين عاماً على صدور التعديل على قانون الهجرة والجنسية الذي ينهي الهجرة القائمة على أسس الحصص تمييزية بناء على الأعراق ليصبح على أسس لمّ شمل العائلات ومعايير العمالة.

في روايته، ظل بطل حجي جابر يبحث، برمزيّة أخّاذة، عن وطنه في شخص حبيبته سلمى ولم يكن يرى غيرها فلم تكن تلهيه عنها أية أحداث ولم يكن أي وجع يغطي على وجعه لفقدها.

ككل المهاجرين، خصوصاً الجيل الأول منهم، الذين يظل الوطن يسكنهم أينما ذهبوا تلهيهم الحياة فلا تنال من مساحة الوطن في قلوبهم، فيقيمون مدنهم «الأم» في المدن الغريبة كما يفعل الصينيون ويحافظون، ما استطاعوا، على لسانهم ودمائهم ورائحة قهوتهم، لتبقى صافية إلا من أصولها كما يقول جابر «كَيَدٍ حنون تدرأ عني غضب المكان وجفوته، كسنديانة تظلل روحي الهائمة في قيظ لا ينتهي»، ويظل الوطن كسلمى التي تمنّى بطله «ظهورها كأول الأماني وآخر المعجزات، كلحظة برء مفاجئة من أسقام الفقد وفواجعه، كنهار يمحو كل ما سبقه من أزمنة العتمة».

أوطاننا ستجعل علماء الأنثروبولوجيا (علماء الإنسان والظواهر المتعلقة به) يعيدون النظر في تسميتها بـ «الأوطان الأم»، وقد يأتي اليوم الذي تُحرم فيه من التشرّف بها كما تُسحب الحضانة من الأم غير السوية غير القادرة على حضانة أبنائها وتصبح الأمهات البديلة وأحضان دور الرعاية أكثر حناناً منها.

إقرأ أيضا لـ "هناء بوحجي "

العدد 4799 - الثلثاء 27 أكتوبر 2015م الموافق 13 محرم 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 6:35 ص

      ماشاء الله عليج

      مواضيعك تشدني

    • زائر 2 | 2:07 ص

      بنت آدم

      أرفع القبعة تحيّة لهكذا فكر ومنطق ..
      لو كان لمثل من هم في منطقكِ القرار والمسؤولية النافذة في وطننا الأم لكُنَّا باذن الله بخير

    • زائر 1 | 11:35 م

      مقال رائع

      سلمت أناملك على هذا المقال. إنه رائع وموجع فهو يلامس الواقع المر الذي نعيشع مع أوطاننا الأم.

اقرأ ايضاً