العدد 4808 - الخميس 05 نوفمبر 2015م الموافق 22 محرم 1437هـ

النهايات والإمبراطورية الجديدة

يوسف مكي comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

عند كل منعطف تاريخي عالمي، تبرز تنظيرات وتأويلات جديدة، وقراءات استشرافية، يصيغها على الأرجح، الفريق الغالب. وتلتقي هذه التنظيرات عند خاصية نهاية التاريخ، التي نظّر لها حديثاً، فوكوياما، لكنه لم يكن واضع أساسها الأول.

فالعقلانية القانونية، هي من وجهة نظر ماكس فيبر، نهاية للتاريخ، ونظرية المراحل لوالت روستو، صنفت النظام الرأسمالي على اعتبار أنه نهاية للتاريخ، ومن قبل ذلك بسنين طويلة، اعتبرت كل الإمبراطوريات ذاتها، باعتبارها أزلية، وأنها الحضور الذي ليس له ما بعده.

وسرعان ما تنتقل تنظيرات النهايات من المركز لتشمل المحيط. يتلقفها المثقفون والمفكرون، وأشباههم، فيصبح الحديث عنها موجة جديدة من موجات السجال والنقاش، ولأنها لغة الغالب، فسرعان ما يتلقفها المهزومون، لتعيد إلى نظرية ابن خلدون عن محاكاة الضعيف للقوي، حضورها ومجدها وألقها.

من الكتب الأثيرة، لدى المهووسين بتنظيرات النهايات، كتاب «إمبراطورية العولمة الجديدة»، الذي ألفه مايكل هاردت وانطونيو نيغري. هذا الكتاب صدر في الفترة التي حكم فيها المحافظون الجدد في الولايات المتحدة الأميركية، وهي حقبة مكارثية معتمة في التاريخ الحديث لاتزال تجد صداها لدى كثير من مثقفي العالم الثالث، على رغم أن تلك الحقبة أصبحت من الماضي، بحكم التطورات السياسية التي حدثت فوق هذا الكوكب في السنوات العشر الماضية.

يتحدث الكاتبان، هاردت ونيغري في هذا الكتاب عن نهاية مرحلة الإمبريالية، وبروز إمبراطورية العولمة بديلاً عنها. خصائص الإمبراطورية، كما هي في التاريخ الإنساني، أنها لا تعترف بأية حدود أو قيود، وأنها تعيدنا إلى عالم ما قبل الحرب العالمية الأولى، وما تبعها من تأسيس عصبة الأمم، حيث ألغي حق الفتح، وجرى اعتماد صيغة معاهدة ويستفاليا التي وقعت العام 1648، لتتحول من معاهدة أوروبية، إلى شكل جديد ينظم العلاقات بين الدول.

وعلى رغم أن المؤلفَين يدعوان إلى ضرورة النظر إلى عودة الإمبراطورية، من منظور مختلف، يأخذ في الاعتبار التطور التاريخي، حيث يؤكدان أن الإمبراطورية الجديدة ستكون مختلفة جذريّاً، عن إمبريالية السيطرة الأوروبية، والتوسع الاستعماري التقليدي الذي ساد في القرون الثلاثة الأخيرة، فإن إمبراطورية اليوم تميل أكثر إلى اعتماد عناصر من النزعة الدستورية للولايات المتحدة مع ما تتميز به من تراث الهويات الهجينة والحدود المتسعة.

تتماهى تنظيرات الكاتبين مع رؤية المحافظين الجدد، في الولايات المتحدة الأميركية التي ترى ضرورة إعادة تشكيل البناء الفلسفي للفكر السياسي الغربي، بحيث يكون منسجماً مع نزعة الهيمنة والسيطرة، التي اعتمدتها إدارة الرئيس جورج بوش، والقائمة على احتقار المؤسسات والهيئات الناظمة للعلاقات الدولية، كهيئة الأمم المتحدة، وعدم احترام قرارتها.

فمن وجهة نظرهما، فإن الإمبراطورية الجديدة المتخيلة، والوحيدة، ستحدث انقلاباً في المفاهيم التي سادت في العصر الحديث، كالسيادة والأمة. إن هذا الانقلاب سيتزامن مع تغيرات ثقافية واقتصادية، بدأت تفصح عن نفسها في مجتمع ما بعد الحداثة، بأشكال جديدة من العنصرية، وبمقولات مختلفة عن مفهوم الهوية. ويحيلان ذلك إلى بروز شبكات جديدة للاتصال والتحكم، وبطرق جديدة للهجرة. وفي هذا السياق، يؤكد الكاتبان مدى طغيان مساهمة الشركات العابرة للحدود القومية، وتزايد هيمنة أنماط العمل والإنتاج، ما بعد الصناعية في تحديد معالم النظام الإمبراطوري الجديد.

المعضلة في هذه القراءة، أنها تختزل التاريخ، في فترة قصيرة، لم تتجاوز العقدين من الزمن، هي فترة الأحادية القطبية، وهيمنة اليانكي الأميركي على العالم. وهي فترة أضرت كثيراً بالناخب الأميركي، حيث أعيدت المكارثية وقيدت الحريات، وشهدت البلاد أزمات اقتصادية حادة، ما لبثت أن شملت العالم بأسره، لتكون أقسى أزمة يمر بها العالم، منذ ما يقرب من الثمانين عاماً.

يغيب التحليل، صراع الإرادات، وقوة الثقافات، وأن القانون هو الاختلاف والتعددية. فآليات العولمة وقوانينها لم تكن بالجملة نتاج تطور تاريخي، كما يصفها، بل تمت بالقسر. والحديث عن سقوط الاتحاد السوفياتي، والكتلة الاشتراكية، باعتباره دليلاً على سقوط مفهوم الدولة والأمة والسيادة، تغيب عنه حقيقة عودة الدب القطبي بقوة إلى الساحة الدولية، بل وتنافسه الحاد، والحاسم في بعض الأحيان، لفرض شروطه، وأجنداته.

لا يمكن للعالم أن يقبل استمرار الانفلات الدولي الذي ساد في عقدي تفرد الولايات المتحدة بصناعة القرارات الأممية. والعالم يصيغ مرحلة جديدة في تاريخه، لا تقوم على نشوء إمبراطورية جديدة، بل إن شئت إمبراطوريات.

تنظير هاردت ونيغري، ربما يجد له ثقلاً في ظل غياب توازنات القوة، وتفرد دولة واحدة بالعالم. أما وأن هذا التوازن أمسى محققاً، فليس من مصلحة البشرية، ولا الدول التي تمتلك أسلحة الدمار الشامل، وفي مقدمها الأسلحة النووية، ألا يكون لمعاهدة ويستفاليا حضورها.

لقد فشل الاحتلال الأميركي لأفغانستان والعراق أمام ضربات المقاومين. وهدف المقاومة هو تحرير البلدين، وتأكيد حقهما في السيادة وتقرير المصير. واليوم تتشكل هيئات وتكتلات دولية جديدة، كمنظومة شنهغاي والبريكس. ومنظمات مماثلة تجمع دول أميركا اللاتينية.

وتتحدى روسيا والصين، هيمنة الولايات المتحدة بتمديد جرفهما القاري، من دون إصغاء للتهديدات الأميركية، والتلويح بلغة الحرب. وتتوسع روسيا الاتحادية، فتعيد القرم إلى أراضيها. وتنشط دبلوماسيتها بشكل قوي في الأزمة السورية.

لن يكون بمقدور العالم القبول بفكرة الإمبراطورية الجديدة، واستمرار الانفلات الدولي، إلا باستعادة مفاهيم الاستقلال والسيادة، وحق تقرير المصير. وإعادة الاعتبار لمفهومي الأمة والدولة. والعولمة هي منجز إنساني إيجابي، ليس شرط وجوده تفرد قوة وحيدة بالعالم.

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "

العدد 4808 - الخميس 05 نوفمبر 2015م الموافق 22 محرم 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً