العدد 4823 - الجمعة 20 نوفمبر 2015م الموافق 07 صفر 1437هـ

الساحل الغربي: ركام المحار وقرى الصيد الدلمونية

ذكرنا في الحلقة السابقة أن البيئة تفرض قيود معينة على نمط الاستيطان، وكذلك، على بقاء آثار الاستيطان؛ فالجزء الشمالي من البحرين له طبيعة فرضت قيود على نمط بناء القبور الدلمونية التي يتم إعادة استعمالها، حتى تحول جزء منها لقبور فترة تايلوس، كذلك، فإن وفرة الماء وخصوبة الأرض أدت لكثافة سكانية في هذه المنطقة أضاعت الكثير من ظواهر الاستيطان فيها، وبالخصوص الظواهر الساحلية، كركام بقايا الكائنات الحية البحرية. وعلى النقيض منه، فإن الطبيعة البيئية في الجزء الجنوبي من البحرين، ساعدت على ظهور تلال القبور الدلمونية، لكنها أثرت سلباً على بقاء آثار الاستيطان، التي لا يكاد يعثر عليها في هذه المنطقة، كذلك، فقد هجرت مناطق الاستيطان من عدة مناطق على الساحل الغربي في حقب مبكرة، ما أبقى على ركام البقايا الحية متجمعة في بعض المناطق.

ويقصد بركام بقايا الكائنات الحية تلك المواقع التي تتجمع فيها بقايا الكائنات الحية، وتوجد بالخصوص بالقرب من السواحل، وتتكون عادة، من عظام الأسماك والقواقع والأصداف، وعادة ما يكون بالقرب منها مواقع طبخ. وهذه المواقع تخص السكان المقيمين بصورة دائمة أو حتى الجماعات المترحلة. هذا، وتوجد العديد من هذه الركام على سواحل الخليج العربي والتي تسمى عادة «Shell middens» لكثرة وجود القواقع والأصداف بها، وقد تم دراسة هذه الركام في العديد من الدراسات المتخصصة، انظر على سبيل المثال (Biagi 2006)، (Boivin and Fuller 2009). أما في البحرين، فقد تم دراسة أكثر من موقع به ركام الأصداف بالقرب من رأس الجزائر، كموقع المرخ، الذي يحتوي كذلك على فخار العُبيد (Roaf 1974)، كذلك، نقبت البعثة الدنماركية في ركام آخر، لكنه يعود لحقبة دلمون (Nielson 1959). يذكر أن بالقرب من رأس الجزائر، وبالتحديد في موقع أم جدر، تنتشر العديد من تلال القبور الدلمونية التي نقبت فيها البعثة الفرنسية (Cleuziou et. al. 1981). إن وجود هذا الركام الذي يعود لحقبة دلمون بالقرب من هذه القبور، يشير بوضوح لوجود قرى دلمونية في هذه المنطقة كانت تعيش على الصيد البحري، وربما عملت في صيد اللؤلؤ، نتيجة لوجود العديد من بقايا أصداف اللؤلؤ في هذا الركام والذي سنتناوله بالتفصيل هنا.

ركام المحار في رأس الجزائر

في العام 1954م اكتشفت البعثة الدنمركية ركام من الأصداف تقدر أبعاده بقرابة 200 متر طولاً، و100 متر عرضاً، وذلك في منطقة رأس الجزائر. ويتكون الركام بصورة أساسية من نوع واحد من الأصداف هو «محار اللؤلؤ» Pinctada radiate، كذلك فقد عثر على بقايا عظام أسماك وفحم وقطع فخار. كما عثر على العديد من مواقع، أو حفر، أشعلت فيها النار، وهي تمثل أفراناً أرضية على شكل حفر، وغالبيتها صغيرة الحجم ومستديرة الشكل، ويتراوح قطرها بين 20 و60 سم. ويعود تاريخ الموقع، وربما الركام نفسه، للحقبة 2000 - 1800 ق. م.؛ حيث اكتشف فيه فخار موازٍ للفخار الذي اكتشف في المدينة الثانية في موقع قلعة البحرين (Nielson 1959). ويعتبر هذا الموقع أكبر موقع عثر فيه على أكبر كمية من محار اللؤلؤ، مقارنة ببقية المواقع الأثرية التي عثر فيها على محار اللؤلؤ والتي تناولناها بالتفصيل في سلسلة سابقة حول القواقع والأصداف.

يذكر أنه في المنطقة الواقعة غرب رأس الجزائر وشرق الزلاق، عثر على العديد من مواقع الاستيطان التي تعود للحقبة الدلمونية نفسها، أي 2000 - 1800 ق. م.، كما أنه تنتشر العديد من تلال القبور الدلمونية في منطقة أم جدر والمناطق المجاورة لها والتي تقع غرب رأس الجزائر. وهذا يرجح، أنه كان يوجد أكثر من قرية دلمونية بالقرب من هذه المواقع.

ويرجح Nielson في دراسته السابقة، أن سكان هذه القرى الدلمونية عملوا في صيد محار اللؤلؤ وذلك لاستخراج ما به من لؤلؤ، حيث يتم نشر محار اللؤلؤ في الشمس حتى يموت وتفتح صدفتيه، وهذه كانت من الطرق القديمة لاستخراج اللؤلؤ من المحار. غير أن المصادر الأدبية تشير إلى أن سكان ساحل الخليج العربي كانوا يفتحون محار اللؤلؤ على السفن في عرض البحر لاستخراج اللؤلؤ منها.

ويرى Nielson في دراسته السابقة الذكر، أنه لا يمكن استثناء احتمال أن محار اللؤلؤ كان يؤكل، على رغم أن هذا المحار لم يكن من ضمن الأصداف المتعارف عليها التي كانت تؤكل؛ فهو كريه الطعم ولا يستعمل، عادة، في الغذاء البشري (Nielson 1959). يذكر أن عدداً من المصادر الأدبية تحوي إحالات مكررة إلى أن محار اللؤلؤ يأكله السكان المحليون في منطقة الخليج (بوتس 2003، ج1: ص 333 - 334)، (Prieur 2005).

أما Bibby في كتابه «Looking for Dilmun» فقد تناول ركام محار رأس الجزائر في سياق أسطوري بعيداً عن الأدلة الأثرية؛ وذلك من خلال أسطورة جلجامش، فتناول طريقة الغوص التي جاءت في الأسطورة وقارنها بما هو معروف عند العامة في الخليج (Bibby 1970, pp. 155-157). كما افترض Bibby، وجود تجارة لؤلؤ نشطة بين دلمون ووادي الرافدين، وذلك اعتماداً على أن اللؤلؤ ذكر في النقوشات الأدبية التي عثر عليها في وادي الرافدين تحت مسمى «عين السمك» (Bibby 1970, pp. 189-192).

غير أنه لا يوجد دليل يرجح صحة ذلك، بما في ذلك مسمى «عين السمك»، وقد تم نقاش ذلك في بحثين منفصلين (During Caspers 1983) و(Howard-Carter 1986)، وكانت نتيجة الدراستين أن «عين السمك» ليس اللؤلؤ، ولكن هذا بالطبع لا ينفي أن اللؤلؤ كان معروفاً في الحقب القديمة. فهل عرف الدلمونيون اللؤلؤ؟

اللؤلؤ ومحار اللؤلؤ في الحقب الدلمونية

استعملت القواقع والأصداف في صنع العديد من الحلي منذ العصور القديمة في العديد من الثقافات، وكانت هذه الحلي تدفن مع الميت كنوع من الطقوس الجنائزية، ففي مدينة أوروك في بلاد الرافدين عثر على دلائل تشير إلى استخدام القواقع في الزينة يعود تاريخها لنهاية الألف الرابع قبل الميلاد (Terlau and Olivera 2004)، أما في الإمارات العربية المتحدة فقد عثر في قبور موقع Al-Buhais 18 في الشارقة على العديد من أدوات الزينة المأخوذة من القواقع والأصداف وحتى اللؤلؤ ويعود تاريخها للحقبة 5100 - 4300 ق. م. (Kiesewetter et. al. 2000) و(Beauclir et. al. 2006). وهناك أنواع محدودة من القواقع والأصداف التي استخدمت في تصنيع أدوات الزينة، بما في ذلك اللؤلؤ، وهذا دليل قوي على أن أصداف اللؤلؤ كانت تصطاد ليستخرج اللؤلؤ منها. وقد عثر على قرابة 100 لؤلؤة من العديد من المواقع الأثرية على سواحل الخليج العربي من الكويت وحتى سلطنة عمان، ويتراوح تاريخ هذه اللآلئ بين 3300 ق. م. و5500 ق. م.، وتعتبر هذه اللآلئ أقدم ما عثر عليه من اللآلئ في العالم (Charpentier et. al. 2012).

وفيما يخص استخدام اللؤلؤ في البحرين في الحقب الدلمونية، فإن هناك ندرة في التقارير التي ذكرت العثور على لؤلؤ في المواقع الأثرية في البحرين سواء الإسلامية منها أو ما يعود لحقبة دلمون، وأقدم اللآلئ التي عثر عليها في البحرين تعود للفترة بين نهاية الألف الثالث وبداية الألف الثاني قبل الميلاد. وتدل اللقى التي عثر عليها أن اللؤلؤ كان يستخدم كنوع من الزينة؛ فقد عثر في القبور الدلمونية المتأخرة الواقعة في مدينة حمد على حلي تحتوي على لؤلؤ (صويلح 2009, ص 313)، كما عثر على عدد بسيط من اللؤلؤ في موقع سار الأثري وذلك في المعبد الدلموني في سار (Crawford et. al. 1997, p. 62). وكذلك في موقع السكن في موقع سار الأثري (Killik and Moon 2005, pp. 178 - 180). ويبلغ ما عثر عليه من لؤلؤ في موقع سار 14 لؤلؤة منها ما هو مثقوب (Killik and Moon 2005, p. 180)؛ وهذا دليل على استعمال اللؤلؤ في الزينة في الخلاصة، أن ركام الأصداف في رأس الجزائر، بالإضافة لوجود مقبرة أم جدر الدلمونية، يشير لوجود قرى دلمونية في تلك المنطقة، كما أنه يؤكد على أن سكان دلمون عرفوا اللؤلؤ، وقاموا بصيد محار اللؤلؤ لأجل اللؤلؤ، وأن محار اللؤلؤ، بعد استخراجه من البحر، كان ينشر على الشاطئ تحت أشعة الشمس حتى يجف وتفتح صدفتاه.

العدد 4823 - الجمعة 20 نوفمبر 2015م الموافق 07 صفر 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً