العدد 4846 - الأحد 13 ديسمبر 2015م الموافق 02 ربيع الاول 1437هـ

حفريات واكتشافات اشتملت على عُمان وفيلكا وتاروت والزبارة

«البحرين... البعثات الدنماركية في دلمون القديمة» لغْلُوب...

توماس جيفري بيبي
توماس جيفري بيبي

يذهب الأثاري الدنماركي ب. ف. غلوب، في معالجته التي تناول فيها خبراته مع البعثة الدنماركية في العام 1953، وكذلك ما يشبه اليوميات والملاحظات عن الحفريات والاكتشافات التي لم تقتصر على البحرين، بل امتدَت لتشمل جبال عُمان وقرى البريمي وجزيرة فيلكا وتاروت والزبارة؛ بتناول سلس ودقيق، لا يعتمد على الترتيب الزمني لتلك الخبرة في المنطقة، بقدر ما ينتخب أهم ما تحقق في تلك التجربة.

الذين مَرُّوا من هنا، انشغلوا بما لم يعننا في شيء، أو كأننا لا علاقة لنا به. الذين مرُّوا من هنا قرأوا ونبشوا وحفروا، كي يفهموا جيداً ما بعد تاريخ هذه المنطقة وإنسانها. مرُّوا من هنا كي يرسخ هذا المكان وتاريخه وإنسانه في ذاكرة المستقبل. وإن كان الأمر لا يعنينا في شيء. تماماً كالثروات التي ظلَّت مواراة في الأرض، وجاء من يستخرجها، وإن سرق الكثير منها، لكننا انتفعنا بالقليل منها في تغيير وجه الحياة، وفي هذا الصدد، فهمنا للأرض التي لنا فيها امتداد وتجذُّر عميق، ولا معنى لنا ولا قيمة إن لم نُحِط به، أو على الأقل الإلمام بالرئيس منه.

الأثر والدور الذي قامت به البعثات الغربية، وإنجازها الآثاري الكبير، أعاد الكثير من المُغيَّب من تاريخ المنطقة، ودورها وعلاقاتها بحضارات العالم القديم. من بين تلك البعثات، تأتي البعثات الدنماركية التي بحثت آثار دلمون القديمة، وقدَّمت تفسيراً وقراءة جديدة لها، تم اعتمادها في كثير من دوائر المعارف والجامعات في العالم. من هنا تأتي أهمية الكتاب الذي ترجمه الباحث والأكاديمي محمد البندر «البحرين... البعثات الدنماركية في دلمون القديمة»، للأركيولوجي الدنماركي ب. ف. غلوب، وأصدرته وقتها (2003) وزارة الإعلام، متمثلة في إدارة الثقافة والتراث الوطني، في 288 صفحة من الحجم الكبير.

أرض أعالي البحار

المترجم، الباحث والأكاديمي محمد البندر، لخَّص في مقدمته للكتاب كثيراً من أبوابه؛ حيث أشار إلى أن الكتاب حمل خلاصة التجربة الشخصية للآثاري القادم من الدنمارك، وانطباعاته الشخصية أثناء البحث والتنقيب في أعماق صحراء قطر وحرِّها اللاهب، وعند سواحل البحرين الدافئة وغابات نخيلها الغنَّاء وعيون مائها العذْب، وعلى جبال عُمان الزرقاء، وفي قرى البريمي النائية، وفي جزيرة فيلكا البعيدة، وبين أنقاض مدن جرْها وتاروت والزبارة التاريخية.

كما حفَل الكتاب بتسجيلات حية لتفاصيل دقيقة من الحياة اليومية لأقطار الخليج العربي إبَّان الخمسينات والستينات، ومشاهداته لبعض العادات والتقاليد السائدة التي تركت في نفسه أثراً طيِّباً، وذكريات لن تمَّحي من حسْن الضيافة والكرم الذي شمله به أهل الخليج من عامة الناس وخاصَّتهم على حد سواء.

ولم تكن معطيات البحث الآثاري وحدها الحاسمة في تحديد البحرين باعتبارها مهد الحضارة الدلمونية، بل استعان غلوب بوثائق التاريخ اليوناني المكتوب، وبالأساطير الرافدينية، وبالمعطيات الجغرافية والفلكية، والمادة الأنثروبولوجية لتعزيز استنتاجاته التاريخية، وجعْلها شيئاً غير قابل للنقْض. إلا أن استعراض الكتاب سيقتصر على الفصول التي خصصها غلوب للبحرين.

احتوى مدخل الكتاب تعريفاً بالبحرين، بدءاً من اسمها الأول الذي عرفت به بين الحضارات القديمة: دلمون، «حيث جاء ذكرها في أقدم كتابات شهدها العالم بالحروف المسمارية المُدوَّنة على الألواح الطينية في بلاد وادي الرافدين قبل 4000 سنة قبل الميلاد»، والأوصاف التي عُرفت بها في تلك الألواح، باعتبارها ارض أعالي البحار، والمكان الذي تشرق منه الشمس، وأرض الخلود «والجنة التي زُرعت إلى الشرق من عدن، والمذكورة في التوراة.

تذكر الألواح تلك أيضاً، أن أهلها من التجَّار الدؤوبين الذين يخوضون عباب البحار «حاملين في سفنهم المواد النادرة والغالية من جميع الأصناف من البلدان البعيدة إلى مدن بلاد الرافدين القديمة».

الجغرافي سترابون والبحرين

ويشير غلوب إلى أن اسم البحرين ظهر بشكل مكثف في أقدم الكتابات التاريخية، وجاء ذكرها في ألواح الطين السومرية، والعهود اللاحقة كدلمون وتلمون. وقد أطلق الجغرافي اليوناني سترابون، الذي أدرك المراحل الأولى للميلاد على البحرين اسم (تيروس)، وذكر بأن الإبحار إليها من بلاد الرافدين لا يستغرق سوى بضعة أيام.

كما ذكرها بعد قرن، كاتب السيرة الشخصية للأسكندر الكبير، إيريان، وسمى الجزيرة (تايلوس)، «وهو الاسم الذي يمكن العثور عليه في الخريطة التي وضعها بطليموس في الإسكندرية في العام 140 للميلاد».

من بين أهم ما حققته البعثة الدنماركية في مملكة البحرين، أنه بات ثابتاً بالشواهد واللقى التي تم استخراجها، أن «دلمون القديمة، وجزيرة الآلهة هي البحرين نفسها، التي استطعنا من العثور على سطحها على أقدم حضارة بقيت غير معروفة إلى حدِّ الآن، وجرى تعميدها باسم البحرين القديم: دلمون».

وبحسب غلوب نفسه في مدخل الكتاب لم يكن اكتشاف دلمون هو هدفنا المشترك مع صديقي طيب الذِّكْر لسنوات طويلة مفتش متحف ما قبل التاريخ في مدينة أورهوس ت ج بيبي، عندما بدأنا العمل في العام 1953 في أول بعثة دنماركية في البحرين».

تتعدَّد الأساطير في بلد كان مُشرعاً ومنفتحاً ومُتداخلاً مع حضارات العالم القديم؛ وخصوصاً حضارة ما بين النهرين، وبطبيعة ما رسخ في الأذهان والتصورات، وأيضاً ما حفظته الرُّقُم الطينية من أشعار وقصص، شكَّلت الأسطورة الصورة التي عليها دلمون، وظلت في تنامٍ مستمر، بحكم حيوية دورها، وتجذّرها ورسوخها بين الحضارات القريبة منها.

من بين تلك الأساطير التي يُشير إليها غلوب في كتابه، أسطورة محلية تقول، إن مياه دجلة والفرات القادمة من بلاد الرافدين، هي التي تُغذِّي العيون الكثيرة الواقعة تحت سطح البحر المحيط بالبحرين بالماء العذْب. وتتحدَّث أسطورة أخرى عن (بير محاب)، الواقع خارج المدينة الرئيسة القديمة (المحرق)، في جزيرة تقع إلى الشمال من البحرين، عن الشيخ ابن حكيم القادم من القطيف، والذي عرض صهرته على شيوخ المحرق بتزويج ابنته الجميلة إلى أحد أبناء المنطقة، لكن رغبته هذه قُوبلت بالرفض، فما كان منه إلا أن غزا الجزيرة واحتل جميع عيون الماء التي يتزوَّد بها سكَّان الجزيرة بمياه الشرب، لكن العناية الربانية أنقذت مصير سكَّان الجزيرة من الموت عطشاً، حين فجَّرت لهم ينبوعاً من الماء العذب من تحت سطح البحر، وكان الانفجار الانبثاق من الشدَّة بحيث أبعد المياه المالحة عن العذبة وجعلها لا تختلط بها (...)».

الآثار الأولى

في هذا الفصل تحديداً، مقدمة جغرافية تمر سريعاً على أهم الجزر في البحرين، مروراً بجزر حوار، وجِدة، والنبيه صالح، والمحرق، والخطوات الأولى التي تم اتخاذها للقيام بعمليات البحث والاستكشاف في المواقع الأثرية، بعد أن تلقت البعثة دعوة من حاكم البحرين وقتها سمو الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة في العام 1953، وما حظيت به البعثة من اهتمام ومتابعة مستمرة.

أعمال البحث والمتابعة استمرت أسابيع، تبدأ بالصباح الباكر، وتنتهي عند المساء. أول تلك الإجراءات تحددت بالمسح والتصوير الجويين للجزيرة، للوقوف على طبيعة التضاريس، وتحديد المواقع التي سيتم فيها البحث والتنقيب. في هذا الفصل وقوف على بعض المناطق التي تحتوي على مسابح مائية تحت سطح الأرض.

يذكر غلوب في الفصل نفسه، أنه تم في الساحل الغربي للبحرين الاهتداء إلى أولى ورشات إنتاج النبال الصوانية التي شيَّدها الصيادون ما قبل التاريخ. ثمة اقتفاء لآثار عجلات سيارة على رمال الصحراء تركتها آخر بعثة آثارية عملت في العام 1940.

كما تم العثور على ورشات جديدة لإنتاج أدوات العمل الحجرية على سفوح جبل الدخان، وفي ذلك يتناول غلوب تميُّز أقدم الأدوات والشرائح الحجرية بصقل غاية في البدائية، ويمكن أن تعود إلى العصر الحجري الوسيط، إضافة إلى ارتباطها بنوع من القرابة مع حضارات الهند وسورية القديمة.

استغرق البحث عن القبور المتاخمة لقرية سار، شهراً، سبقها أعمال تشخيص ومتابعة. كان اليقين قارَّاً بأن القبور تلك، تحتوى جراراً فخارية، على رغم حقب طويلة من عمليات النهب التي تعرضت لها.

في ذلك الموقع، تم اختيار اثنين من التلال، أحدها مرتفع، والآخر أقل حجماً، ومن المعاينة تأكد لدى البعثة أن أعمال التنقيب لم تطلهما. التلَّان كانا من بين 100 ألف تلَّة تتكون منها المنطقة، وكانت للمصادفة والحظ دور في عملية اختيار التلَّين؛ إذ أسفر البحث والتنقيب عن احتواء التلَّين على نوعين مختلفين من الغرف الحجرية.

معابد باربار

ويشير غلوب إلى أن نتائج الحفريات في القبور التي تعود إلى العصر الحديدي، كانت أكثر أهمية «حيث كانت صخرة الغطاء العلوي في أحد القبور قد أزيلت، وأجريت العديد من أعمال الدفن الإضافية في قسميْ القبر العلوي والسفلي».

وفي الفصل المتعلق بمعابد العهد القديم في باربار، يتناول غلوب بالتفصيل والشرح، الأثر الكبير والنتائج العلمية التي تمخضت عن الاستكشاف في القرية القريبة من سار، وتحديداً، معابد باربار؛ إذ تسنى للبعثة الموكولة بالمهمة اكتشاف بقايا معبد يعود تاريخه إلى الألف الثالث قبل الميلاد، وعن ذلك يقول غلوب: «كان أحد المواقع التي قمنا بالتنقيب فيها قريباً من قرية سار، متناولاً طبقات الاكتشافات والحفريات، ومن بينها ما يعرفه الآثاريون «الطبقات التاريخية»، حيث تحتوي على مواقد مليئة برماد خفيف دافئ «وكأنه ناتج عن نار تم إطفاؤها حديثاً، وكانت هناك جرار فخارية ذات بطون دائرية سميكة تساندت على بعضها البعض، وهي تقص حكايات مدهشة عن ذلك الزمن الغابر».

ويعرِّج غلوب على وصف يتناول قيام المستوطنات في قلعة البحرين، والتي تعود إلى العهد القديم، خلال الخمسة آلاف سنة الأخيرة، مشيراً إلى أن أقدم مدينة مسوَّرة في البحرين تعود إلى التاريخ نفسه الذي بنيت فيه معابد باربار. موضحاً أن المنطقة عرفت نشوء مستوطنات تعود إلى ثلاثة آلاف سنة، مبيِّناً أن تعاقب أساسات البناء أوضح بأن الطبقات التاريخية لم يلحق بها التخريب نفسه الذي تعرضت له الجدران.

يقف غلوب كذلك على خصائص المدينة البحرينية، تلك التي يحددها بوضوحها على الفخار والأختام الأسطوانية، في التفاتة إلى ما يتمتع به الفخار الأقدم عمراً بشرائح السطح الإضافية نحيفة الشكل على هيئة حبيبات، بينما كانت المتأخرة منها تتميز بوجود الشرائح نفسها لكنها ذات مستوى أملس وذي حافة على السطح.

وللحقب التاريخية التي تعاقبت، بعد سقوط الدولة الدلمونية في بداية الألف الثانية قبل الميلاد، يشير غلوب إلى أن قوى أخرى بسطت سيطرتها على جزيرة البحرين؛ لكن أساسات المدن الدلمونية الكبيرة احتفظت بشكلها وتم العثور فيها على بعض الفخار ذي الجذع الطويل البنيّ اللون والسميك الذي لا يشبه الفخار الدلموني المحلي.

تلال عالي الأثرية
تلال عالي الأثرية




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً