العدد 4856 - الأربعاء 23 ديسمبر 2015م الموافق 12 ربيع الاول 1437هـ

حيرة العرب... حكم الغلبة

عبدالنبي العكري comments [at] alwasatnews.com

ناشط حقوقي

كان يؤمل أن تشكل الدولة الإسلامية التي بدأت ملامحها في حكم المدينة المنورة خلال الحقبة المحمدية، الدولة العادلة، في تجاوز لنموذج الدولة التسلطية الكسروية أو البيزنطية أو البطليموسية. وقد شكلت صحيفة المدينة في عهد الرسول (ص) ما يشبه الدستور الذي ينظم حياة السكان بغض النظر عن دينهم أو أصلهم أو مكانتهم الاجتماعية. بالطبع فقد كان ذلك يمثل بدايات متواضعة لمجتمع بسيط وعلى مساحة جغرافية بسيطة وشعب صغير. لقد أوضح القرآن والحديث النبوي وتصرفات النبي محمد (ص)، وأصحابه وأهله في الحياة العملية مرتكزات ما يتوجب أن تكون عليه الدولة المرتجاة والنظام السياسي الجديد. وفي هذه المقالة سأقتصر على جانب واحد من مرتكزات الدولة ونظامها السياسي ألا وهو نمط السلطة.

إن من أهم المرتكزات التي ترددت في القرآن والسنة وسلوك النبي (ص) وصحبه وأهله هي الشورى كنقيض للاستئثار بالرأي والتسلط وقد جاء في القرآن الكريم «وأمرهم شورى بينهم» وجاء في الحديث الشريف «ما خاب قوم تشاوروا في أمرهم» ويمكننا من خلال العديد من الوقائع أن نرى تجسيداً لذلك في إدارة شئون المدينة والأمصار؛لكن عشر سنوات من حكم الإسلام الجديد لا تلغي ما استقر في الثقافة العربية والذهنية العربية والتقاليد العربية من اعتداد الزعيم وخصوصاً المقربين منه وعصبية السلطة.

جاء الاختبار الأول في اجتماع سقيفة بني ساعدة لصحابة النبي (ص) وأشراف المدينة فلم يزل النبي (ص) مسجى، حتى دبت الخلافات على اختيار الخليفة. فقد طرح المهاجرون بقوة أنهم أولى من الأنصار بالأمر. في حين أن الفضل في انتصار الدعوة الجديدة يعود للطرفين المهاجرين والأنصار، ثم طرح بقوة حصر الأمر في قريش، في حين أن الإسلام ساوى بين الجميع، وجاء للحد من القبلية والعصبية، وهو ما كان.

إذاً فقد تم الحد من مبدأ الشورى، وهي شورى الأمة، وليس نخبة معينة، وكلنا نعرف كيف سارت الأمور في اختيار الخلفاء الراشدين الأربعة، وما رافقها من صراعات عنيفة أدت إلى قتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين وهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنهم جميعاً.

ويمكننا أن نرصد التحول من التوافق النسبي فيما بين الصحابة وأهل الحل والعقد إلى الشقاق والذي انتهى إلى تكرس دولتين إسلاميتين واحدة في الكوفة في ظل الخليفة الرابع الإمام علي بن أبي طالب، والأخرى في دمشق في ظل معاوية بن أبي سفيان وما رافق تلك الحقبة، من حروب واقتتال فيما بين المسلمين أنفسهم، وكان الصراع على السلطة في قلب هذه الحروب والنزاعات، والتي أوقفت حينها توسع الدولة الإسلامية ولو إلى حين. وهكذا فلم يسر بناء الدولة وتشكل النظام السياسي بشكل سلس وتراكمي، يتماشى مع الانتصارات التي حققها المسلمون وتوسع أمصار الدولة الإسلامية وتمددها، والتي امتدت من تركستان بالصين شرقاً إلى جبال البيرينيه في أوروبا غرباً، ومن القوقاز شمالاً إلى السودان جنوباً، ضامة أراضي عدة إمبراطوريات حينها، وعدة أمم وشعوب، ذات حضارات وأديان وثقافات ومعتقدات متنوعة، كان يمكن أن تشكل إثراءً للدولة الإسلامية، القائمة على التعددية والشورى والعدالة.

من الأمور الملفتة للانتباه أنه في سياق الفتوحات الإسلامية فغالباً ما يولي الخليفة القادة العسكريين الحكم على الأمصار التي يحكمونها بالمطلق، أو أن يناط الحكم كمكافأة لزعامات قبلية موالية، أو الأقارب المقربين، وخصوصاً مع تحول الحكم في سلالة بني أمية، بعد أن تحول الحكم إلى حكم عضوض. فعلى جميع المستويات من حاضرة الخلافة (دمشق حينها)، حيث يدير الخليفة حكم الدولة الإسلامية المترامية الأطراف، والدواوين المرتبطة به، مروراً لولاة الأمصار، وانتهاءً بنواب الولاة على المقاطعات، فقد كانت روح الغلبة هي السائدة، وسلطة الحاكم بدءاً بالخليفة وانتهاءً بمأمور الناحية لا تنازع؛ بل إنه ورغم كون الإسلام ديناً جاء محمد (ص) به للبشرية جمعاء و «لا فرق بين عربي أو أعجمي إلا بالتقوى»، فإن السلطة، سلطة الحكم وقيادة الجيوش، قد أنيطت بالعرب الفاتحين، وقد يكون الاستثناء لذلك إناطة مهمة فتح الأندلس بأمازيغي هو موسى بن نصير. ولم يترافق ذلك بإقامة مجالس لقيادات المجتمع والحكماء كما جرى في المدن اليونانية مثلاً.

وظل مبدأ التوارث هو السائد في تسنم منصب الخلافة، وماجره ذلك أيضاً من صراعات حتى داخل العشيرة الحاكمة كما حدث في الصراع في بني أمية ما بين فرعي بني سفيان وبني مروان، وقد تكرست عقلية الغلبة في إدارة شئون الحكم والتصرف بموارد البلاد من أراض وخراج والجزية المفروضة على غير المسلمين والزكاة المفروضة على المسلمين، وهي موارد هائلة وسلطات واسعة.

حكم الغلبة طبع استئثار إحدى بيوتات قريش دون سائر البيوتات بالخلافة وطبع استئثار العرب، بالحكم والسلطة، دون سائر المسلمين والذين اعتنقوا الدين الجديد، والذي كان يتوجب أن يؤمن لهم المساواة والعدل والكرامة لذا كان طبيعياً أن تحدث ثورات وتمردات ذات طابع قومي أو جهوي أو طبقي ضد الحكم الأحادي، وخصوصاً في الأطراف، والتي أطلق عليها ظلماً الحركات الشعوبية، وتصويرها أنها معادية للعرب فحسب، وليست حركات ذات مطالب مشروعة وتراجع حلم الدولة العادلة، القائمة على الشورى والعدل والمساواة فيما بين الشعوب والأعراق والأمم التي دخلت في الإسلام في ظل الدولة الإسلامية.

جرّ ذلك كما نعرف إلى صراعات على السلطة والحكم بحيث تتابعت وتزامنت عدة دول إسلامية - الأموية والعباسية والأيوبية والحمدانية والاغالبة وغيرها - إلى أن ورثتها وسيطرت على معظم أمصارها الدولة العثمانية التي هي تتويج لحكم الاستبداد والغلبة الإسلامي شكلاً العرقي فعلاً.

إذاً لم يعرف العرب باستثناء فترة الحكم الرسولي والخلافة الراشدة التي شابها الاضطراب، وخلافة عمر بن عبدالعزيز القصيرة، حكماً قائماً على الشورى الحقيقية، ولم يعرف النظام السياسي تعددية في بناء سلطات الدولة، وتنوعاً في مكوناتها البشرية والقومية.

ومع نهوض الحركة القومية ودعوات الإصلاح في بداية القرن العشرين، وباستثناء بعض الإصلاحيين مثل الكواكبي والمفكرين القوميين ودعاة النهضة التي لم تنعكس في بنية السلطة التي أقيمت على أنقاض الحكم العثماني، سيترتب على الانعتاق من حكم الدولة العثمانية أو حكم الدول الاستعمارية كالبريطانية والفرنسية قيام بيوتات الحكم الاقطاعية المتمثلة في مصر وتونس والجزائر والمغرب واليمن، ورغم معايشة هؤلاء المفكرين الإسلاميين والقوميين للغربيين وعيشهم وتعلمهم في الغرب، وخصوصاً في فرنسا، فإنهم لم يتشربوا بما أفرزته الحضارة الغربية من قيم الديمقراطية والمواطنة المتساوية ودولة المؤسسات بل وفي كثير من الأحيان منهم متشددون للماضي من حيث بعث الدولة الإسلامية القوية المهاباة الجانب، أو إحياء أمجاد العرب في الحكم والسيطرة والإنجازات أيضاً. من هنا فحركة التحرر العربية سواء تلك التي غلب عليها الطابع الوطني كما في مصر أو جهوي كما في بلدان المغرب، أو قومي كما في بلاد الشام. مع تداخلها، لم تول اهتماماً كبيراً للمحتوى الديمقراطي والمواطنة المتساوية ودولة المؤسسات التي ستبنى بعد التحرر من الاستعمار. لهذا ومع استثناءات قليلة كما في حكم الاستقلال المبكر في سورية وتونس والمغرب، ووعود الثورة المصرية الناصرية، وثورة 14 تموز القاسمية، والثورة الجزائرية في ظل أحمد بن بلة وثورة اليمن الجنوبي، فقد تأسست دولة الاستقلال على عقيدة الغلبة، بل واحتكار السلطة، وتكريس ذلك باستخدام إمكانيات الدولة بما في ذلك القوة العسكرية الغاشمة، وقمع الأجهزة الأمنية والمخابراتية والإغراءات المادية يستوي في ذلك حكم بلدان الخليج الفتية وحكم بلد فقير مثل موريتانيا بل إن من أهم مرتكزات حكم الغلبة، هو تشتيت وتمزيق الشعب ونخبه السياسية والثقافية والمجتمعية، ولم تتورع الأنظمة عن إثارة وتعزيز النزاعات الدينية والمذهبية والعرقية والجهوية، اقتداءً بالنهج البريطاني السيء الذكر «فرق تسد».

وتتالت الإنقلابات العسكرية باسم ثورات وهمية، حيث يعد الحكم الانقلابي الشعب بالحرية والعدالة والرخاء، ثم لا يلبث أن ينقلب على وعوده، ويعاد تشكل النخبة الحاكمة ولكن على ذات القاعدة وهي الاستئثار بالسلطة والتي تمكنها من الاستئثار بالثروة. حكم الغلبة السائد في الدول العربية، لا يستند بالطبع لإرادة الشعب ومكوناته ولا يجسد المشاركة الشعبية في إدارة الحكم كما تنص على ذلك الدساتير، وليس نتاج عملية انتخابية ديمقراطية، ولا على وجود دولة ومؤسسات أكبر من الحكومة وذات استمرارية، بل هي نتيجة القهر والإخضاع، وإضعاف الأمة مقابل تغول السلطة، واختزالها الدولة في مؤسسة الحكم، دعك من الدساتير المسطرة والقوانين المقولبة، والانتخابات الشكلية، وبرلمانات الدردشة، وباقي المؤسسات فهي تختزل جميعاً في نخبة حاكمة ضيقة تستند إلى العصبية العائلية والسلطوية والمصلحية. أمام العرب تحدٍ كبير من ضمن التحديات الكثيرة، ألا وهو نقد مسار بنية الدولة الإسلامية والعربية، والتراجع الكبير عن وعود الاستقلال ووعود الثورات ووعود الأحزاب ولن يكون هناك مشروع نهضة بدون محتوى الديمقراطية والمواطنة المتساوية والعدالة.

إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"

العدد 4856 - الأربعاء 23 ديسمبر 2015م الموافق 12 ربيع الاول 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 1:54 ص

      سأطرح تساؤلي بطريقة أخرى : كم مرة استخدم مبدأ الشورى في الاسلام

      قال تعالى (وأمرهم شورى بينهم) (وشاروهم في الأمر)
      أي الامور التي يجب التشاور فيها؟
      وهل امر الخلافة امر الله أي من يخلف الانبياء يختارهم الناس ام يختارهم الله ام هي متروكة للناس ان يختاروا خليفة لنبيهم ؟
      هل هناك علاقة بين النبوة ومن يخلفها لكي يكون النبي ممن اختارهم الله لكن خليفته يختاره الناس؟
      ما الفرق بين رسالة النبي وخليفته لكي يختار الله النبي ثم يترك خلافة النبي للناس؟
      هل خلفاء الأنبياء السابقين كانوا من اختيار الناس ام من اختيار الله واختيار الانبياء انفسهم.

    • زائر 1 | 12:29 ص

      الولي الفقيه

      اخي الكاتب ماشاء الله عليك سردت التاريخ من عهد الصحابه حتى العهد الحديث وكلفهما من المقال بان العرب والمسلمين اخذو الحكم بالوراثه لم تذكر ايضا الولي الفقيه الإيراني الخميني سلم الولايه لابنه علي خامنئى بالوراثه

    • زائر 6 زائر 1 | 2:35 ص

      إن كنت لا تعلم لا تثرثر نمره 1

      من قال لك أن السيد علي خامنئي حفظه الله إبن الإمام روح الله الخميني قدس سره ؟؟ إن لم تفقه في أمور هكذا فلتتصفح الجريده يمكن أن تعلق مثلا على موضوع دعم اللحم أو النشره الجويه.

اقرأ ايضاً