العدد 4952 - الإثنين 28 مارس 2016م الموافق 19 جمادى الآخرة 1437هـ

مستقبل العلاقات العربية الصينية في عالم مضطرب

رضي السماك

كاتب بحريني

إذا كان المحللون والباحثون العرب لم يتنبهوا إلى أهمية إقامة أو توطيد علاقة الدول العربية مع الصين الشعبية كقوة صاعدة سياسياً واقتصادياً على الساحة الدولية، إلا على إثر انهيار الاتحاد السوفياتي، وزوال النظام العالمي الثنائي القطبية في مطلع تسعينيات القرن الماضي وتحوّله إلى نظام أحادي القطبية تتربع عليه الولايات المتحدة، فإن هذه المهمة التي مازالت مُغيّبةً تغدو أكثر إلحاحاً بلحاظ ظروف اللحظة السياسية الخطيرة الراهنة التي يمر بها العرب في عالم شديد الاضطراب، حيث تتوفر فرصة نادرة نحو بناء قرار استراتيجي عربي موحد يحقق هذه الغاية بالنظر إلى ما طفحت به العلاقات العربية - الأميركية من تناقضات جمة غير مسبوقة تاريخياً، طاولت الصعيد الرسمي بعدما كانت مقتصرةً على الصعيد الشعبي. وهذا لن يتأتى بطبيعة الحال إلا من خلال توصل العرب إلى قرار استراتيجي عربي موحد جاد، ولا قيمة له إذا ما اُتخذ بمعزل عن إصلاح البيوت العربية سياسياً وديمقراطياً وتعزيز تماسك الجبهات الداخلية والوحدات الوطنية .

ومن هنا تبرز الحاجة الفائقة الأهمية راهناً لدراسات استراتيجية عربية جديدة نوعية عميقة التفكير والتحليل، تأخذ بعين الاعتبار ليس فقط قصور معظم الدراسات العربية النظرية التقليدية السابقة التي تناولت العلاقات العربية مع الصين دون أن تنطلق مما يموج به الواقع المرير من تجارب وممارسات قُطرية سلبية لتحديد بالضبط مدى آفاق العلاقات العربية مع الصين، في المستقبل المنظور بعد استخلاص العوامل الموضوعية والذاتية التي تحول دون حدوث النقلة المنشودة في تطوير تلك العلاقات.

وفي تقديرنا ليس ثمة من يضطلع بدراسات بهذه الكيفية أفضل من باحث يحمل الدكتوراة وعايش التجربة وسبر أغوارها من الداخل في أحد مجالاتها، وهو المجال الدبلوماسي، ومتخصص في ذات الوقت أكاديمياً وعلمياً فيها وتحديداً في شئون الصين سياسةً وتاريخاً وحضارةً. وأحسبُ أن الزميل السفير محمد نعمان جلال، مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق وسفير مصر الأسبق في الصين، هو من القلة العربية الذين تتوفر فيهم هذه المزايا، نظرياً وتطبيقاً، وله دراسات عديدة عن الصين لعل أهمها كتابه الصادر حديثاً بعنوان «العلاقات المصرية الصينية» عن دار الجمهورية.

ومع أن الكتاب، كما يبدو للوهلة الأولى من عنوانه تقليدياً وذا شأن مصري- صيني صرف، إلا أنه يتطرق في الكثير من محتوياته إلى صميم مجمل العلاقات العربية الصينية، ناهيك عن أنه يضع العلاقات المصرية الصينية باعتبار مصر النموذج العربي الأعرق الجدير بالاستفادة من إخفاقاته ونجاحاته في العلاقات مع الصين، لكونها أول دولة عربية أقامت علاقات دبلوماسية مع الصين الشعبية العام 1956، على مشرحة التحليل السياسي بكل شفافية وبميزان موضوعي صريح تشعر من خلاله بحق أن صاحبه لا يبتغي من وراء ذلك إلا المصلحتين الوطنية المصرية والعربية القومية.

الكتاب الذي صدر في طبعة صحفية شعبية متواضعة، ويكاد يكون مغموراً إعلامياً، بل وحتى بين أكوام كتب وأجنحة معرض القاهرة الدولي الأخير للكتاب، رغم أهميته وقيمته العلمية الفائقة، يتكون من 11 فصلاً خصص أغلبها للعلاقات المصرية الصينية، لكن فيها ما يتضمن ويتشابك مع الشأن العربي العام في العلاقات مع الصين، والفصول الأخرى خصصها جلال للعلاقات العربية والأفريقية والخليجية مع الصين كلاً على حدة. ولدواعي الإيجاز والتركيز، سأقتصر على إعادة صياغة وعرض سبع نُقاط أحسبها من أهم النقاط المُستخلصة من فصول الكتاب وأراها مفيدة مصرياً وعربياً لاسيما أن بعضها ينطوي على حقائق صادم:

الأولى: إن تطعيم تراث الحكمة والفلسفة لأي شعب مهم في المذاهب الفكرية المعاصرة لنجاح بنائه السياسي والاقتصادي المعاصر، وهذا ما تنبه له قادة الصين الشيوعيون الذين خلفوا ماوتسي تونج، قائد ثورتهم، المعروف بسياساته الرعناء الكارثية من شدة تطرفها. وقد اهتم المؤلف بهذا الجانب عبر قراءاته لمئات المصادر الصينية والعربية التي تناولت هذا الشأن، ومنها على سبيل المثال «كونفشيوس النبي الصيني» لحسن سعفان.

الثانية: ينتقد المؤلف ظاهرة الإصدارات الرسمية المصقولة المصرية المليئة بالصور والاكليشهات والزخارف الإنشائية والتي تأتي على حساب المضمون العلمي، ومنها على سبيل المثال الكتاب الذي صدر بمناسبة مرور 50عاماً على علاقات مصر مع الصين، ولذا فإنه يعرب عن مرارته لانعدام الجدية الكافية في التحضيرات التي جرت بمناسبة مرور 60 عاماً هذا العام على هذه العلاقة.

الثالثة: يعدد المؤلف خمس مراحل تاريخية مرّت بها العلاقات المصرية الصينية منذ تدشينها في 1956 تراوحت بين الصعود والفتور والتحسن، ويعتبر أن أخصبها هي مرحلة (1956-1967) ويُلاحظ أنها نفس الفترة التي شهدت المد القومي الناصري.

الرابعة: يوجه المؤلف نقداً ضمنياً إلى رئيس الوزراء الأسبق كمال الجنزوري الذي دفع الرئيس حسني مُبارك في زيارة له للصين العام 1996 لتوقيع 20 مذكرة تفاهم بين البلدين سبق توقيعها، وذلك من أجل تضخيم إنجازاته وإظهار دوره المتميز في تطوير العلاقات بين البلدين، ما عرّض الرئيس الصيني ووفده في المباحثات بين البلدين للإحراج البالغ على رغم أن هذه المذكرات أقل قيمةً من الاتفاقيات.

الخامسة: ينتقد المؤلف أيضاً لا مبالاة وزراء مبارك بوضع القرارات الاستراتيجية بين بلاده والصين موضع التنفيذ، وبخاصة وزير الخارجية الذي أخذ عليه قلة زياراته للصين إلا إذا كانت بصحبة الرئيس، وكذلك وزير الزراعة الذي لم يكترث هو الآخر بزيارة الصين للاستفادة من تطور تجربتها الزراعية، وبخاصة في مجال الاكتفاء الذاتي من الحبوب.

السادسة: ينتقد المؤلف الرئيس «الإخواني» السابق محمد مرسي لخروجه عن الأعراف البروتوكولية بالتأخر نصف ساعة عن مواعيد المباحثات مع الجانب الصيني أثناء زيارته لبكين، وقيل لدواعي تقيّده بمواعيد الصلاة، على رغم مراعاة القيادة الصينية الدقيقة للمواعيد. بل إن المؤلف نفسه تلمّس من إحدى فقرات كتابه اهتمامه الحضاري بقيمة الوقت على عكس كثرة من الدبلوماسيين العرب الذين لا يتقيدون بهذه الميزة في حياتهم الوظيفية، ولطالما أهملوها في حياتهم الخاصة خارج الوظيفة!

السابعة: يحدّد المؤلف ثمانية عشرة عاملاً لتطوير العلاقات المصرية الصينية نرى أن غالبية مضامينها تنطبق في ذات الوقت على شروط تطوير علاقات كل دولة عربية مع الصين، لعل أهمها محاربة الفساد في مصر أسوةً بما تفعله الصين في عهد شي جينبنج. وعلى رغم أهمية هذه الدراسة القيّمة ثمة ملاحظات تتصل ببعض جوانبها المنهجية والموضوعية التي أرى أن لا مندوحة من التطرق إليها، وهذا ما سنتناوله في المقال القادم.

إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"

العدد 4952 - الإثنين 28 مارس 2016م الموافق 19 جمادى الآخرة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً