العدد 4955 - الخميس 31 مارس 2016م الموافق 22 جمادى الآخرة 1437هـ

عن أية عدالة نتحدث؟

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

تحتاج مؤسسات المجتمع المدني العربية أن تطرح على نفسها السؤال التالي: أيُ شعارٍ يجب أن يحظى بالأولوية القصوى، وينال اهتماماً يومياً، ويتداول على ألسنة الناس ليل نهار، حتى يصبح جزءاً من تطلعاتهم المستقبلية وهدفاً محورياً تدور من حوله كل الأهداف الأخرى؟ أي شعارٍ يجب أن يتدرب المواطن على استعماله كأداةٍ يقيس بها صحة أو خطأ ما يراه ويسمعه، وما يقبله أو يرفضه؟

في اعتقادي أنه شعار العدالة، ليس ككلمة غامضة تستعمل بخفّةٍ أو حتى بانتهازية، وإنما كمفهومٍ له معانيه ودلالاته وأساليب تطبيقه في الواقع.

ذلك أن مفهوم العدالة هو المدخل الضروري للتفريق بين الديمقراطية الحقيقية والديمقراطية المظهرية المزيّفة؛ بين النظام الاقتصادي الاجتماعي الإنساني والنظام الاقتصادي الأناني الجائر؛ بين الحرية الفردية المسئولة والحرية الفوضوية العبثية؛ بين القانون المنصف والقانون المنحاز من وراء قناع؛ بين تساوي المرأة الحقيقي في الإخاء الإنساني وبين تساويها الكاذب خارج ذلك الإخاء.

نحن نريده مفهوماً صالحاً لأن يضم تحت جناحه كلّ الفضائل الأخرى، من مثل الرحمة والتسامح والكرم والشجاعة وغيرها، التي بدون التصاقها بمفهوم العدالة تصبح في خطر النكوص عن معانيها السامية واستعمالها بابتذالٍ من قبل قوى الشر، أي أن تكون العدالة كما قال أرسطو «الفضيلة الكاملة».

إن كنا نريد لهذا المفهوم أن يقوم بكل تلك الأدوار، أفلا يصبح من الضروري الاتفاق على دلالاته الأساسية؟ خصوصاً أن ملايين الحناجر العربية صرخت مطالبةً بالعدالة الاجتماعية في بداية وعبر مسيرة الربيع العربي.

بادئ ذي بدءٍ، فإن مفهوم العدالة مختلف من حوله. وكمثال، فنظرة المدرسة الليبرالية إليه تختلف جذرياً عن نظرة المدرسة الماركسية إليه. وفي وطننا العربي فإن نظرة المدرسة الإسلامية السياسية تختلف عن كلا النظرتين. من هنا فإن المطلوب هو الاتفاق على مفهوم صالح للواقع العربي الحالي، لأن العدالة -مثلها الديمقراطية- هي سيرورة لها بداية ولكن ليس لها سقف أو نهاية، وهي محكومة جزئياً بالتاريخ والثقافة والقيم والعادات.

إن المفكر الأردني فهمي جدعان يرى أن يكون المنطلق العربي لمفهوم العدالة هو شعار الخير العام الذي هو حصيلة النظر إلى الدين كمقاصد كبرى وليس كجزئيات متناثرة، قد تبدو أحياناً أنها متناقضة. إنه بذكٌّر بأقوال الفقيهين الشاطبي والقرافي قديماً وبأقوال الطاهر بن عاشور حديثاً، من أن المصلحة العامة ينبغي أن تكون أساساً لجميع الأحكام القانونية، هذا إن أريد لها أن تكون قوانين عادلة.

وهو يعتقد أن الانطلاق من ذلك الفهم الفقهي، فهم الدين كمقاصد كبرى، سيسهًل على العرب الأخذ بالكثير من النظرات الإنسانية الصائبة حول العدل في مختلف المدارس الفكرية الغربية ليدمجها مع متطلبات الواقع العربي ويخرج بنظرة عربية متكاملة حول مفهوم العدل.

من المؤكد أن ذلك المنطلق لن يتناقض مع المفهوم الغربي القائل بأن العدالة هي الالتزام بما تفرضه القوانين، إذ أن المنطلق العربي لا يقبل وجود قوانين لا تقوم على أساس المصلحة العامة والنفع العام. وهو لن يتناقض مع المفهوم الغربي من أن العدالة هي المساواة في الحقوق، إذ لا مصلحة عامة إن لم تُبن على المساواة النسبية، ولكن العادلة، في الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لا بين الجماعات فقط وإنما بين الأفراد المواطنين أيضاً ضمن مفهوم المواطنة القانونية الحقوقية المتساوية الحديثة.

إن ذلك سيقود إلى وجود دولة الرفاهية الاجتماعية، حيث تكافل القوي مع الضعيف، والغني مع الفقير؛ وحيث المساواة في الفرص وتقاسم كل أنواع الخير العام؛ وحيث الحرية لا تنقلب إلى فردية أنانية عابثة؛ وحيث لا يسمح للفوارق الجنسية (الجندرية) أو الانتماءات الدينية أو المذهبية أو القبلية الفرعية أن تلعب خارج ملعب المصلحة العامة والنفع العام، ذلك أن الهوية الإنسانية والوطنية العامة هي أهم وأسمى من كل الهويات الأخرى، وبالتالي هي جزء من العدالة.

سيكون مفجعاً أن تطرح الجماهير العربية شعار العدالة الاجتماعية، مقرونةً بالحرية والكرامة الإنسانية، فلا تقوم النخب الفكرية والسياسية بإعطاء مكان بارز لها في الفكر السياسي العربي وفي البرامج السياسية للأحزاب وفي الحياة المدنية، وأن تتوقف قوى التسلط العربي من تجاهل ذلك الشعار، وأن يتوقف علماء الفقه الإسلامي العربي عن قصر اهتمامهم بصفات الحاكم العادل دون الاهتمام بصفات نظم الحكم العادل ومتطلباته الصارمة.

لنتذكر أن الإنصاف، الذي امتُدح كثيراً في تراثنا، هو العدالة مطبقة في الواقع، وهو العدالة النابضة بالحياة. والتراحم والتعاضد والشفقة والإحسان لا تحل محلّ العدالة. إنها جميعاً تمهّد لها ولكن لا تأخذ محلها.

في هذه اللحظة تجري محاولات كثيرة لترسيخ فكر سياسي ديمقراطي في أرض العرب، بعد أن عانت تلك الأرض عبر قرون كثيرة من ويلات الظلم والتسلط. من أجل أن يكون لذلك الفكر الديمقراطي التأثير الكبير في نقل مجتمعات العرب بعيداً عن التخلف لابد أن تكون العدالة منطلقاً له ومكوناً أساسياً من مكوناته، وحامياً له من التشوّه والإنزلاق الدوري نحو عوالم الظلم والتسلط.

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 4955 - الخميس 31 مارس 2016م الموافق 22 جمادى الآخرة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 3:48 ص

      تساؤل

      المساواة في الحقوق الا تعارض المساواة النسبية التي هي اصل العدالة الاجتماعية كما عبرت استادي ؟
      و تعليق اخر ان اصل مفهوم العدالة حصل فيه خلاف بين شتى المدارس كما تفضل و البعيد هو ان تتخذ حل وسط بينها كلها لان لوازم التسليم لبعض منها باطل بين كما لو قلنا بان الغاية تبرر الوسيلة لارساء العدالة نفسها مثلا في بعضها و هكذا في كثير من الموارد و لكن دعوتكم لحل وسط كما افهم من المقال هو مصيبة اخرى فلا حل واقعا الا باتباع مدرسة مستحدثة كليا او الرجوع للمدرسة الالهية

    • زائر 2 | 2:41 ص

      العادل هو الله جل جلاله

      اما البشر فجميعهم ظالمين عدا الانبياء والرسل و اهل البيت عليهم السلام

    • زائر 1 | 12:26 ص

      لكثرة ما تلاعبت الأنظمة بالمصطلحات أصبحنا نخاف حتى من كلمة عدالة، لأننا ربما نظلم تحت مظلّة العدالة كما هو حال الاصلاح والديمقراطية وغيرها من المصطلحات

اقرأ ايضاً