العدد 4956 - الجمعة 01 أبريل 2016م الموافق 23 جمادى الآخرة 1437هـ

تراجع مكانة الدولة في العالم العربي

شفيق الغبرا comments [at] alwasatnews.com

نعيش في عالم يسوده القلق والخوف، هذه هي حال العالم العربي في وضعه الإقليمي الراهن، لكن الأوروبيين أيضاً قلقون بسبب وصول العنف والإرهاب إلى أوروبا في أكثر من مكان وموقع ومدينة، كما حصل الثلثاء الماضي في بلجيكا وقبل ذلك في فرنسا.

إن طبيعة الوضع الكوني هي التي جعلت التداخل بين المجتمعات والدول والحدود والعواصم تزيد صعوبة التمكن من ضبط أعمال العنف ضد المدنيين في أوروبا.

في عصرنا الراهن تبرز قوى جديدة لفئات تسكن قاع المجتمع وتشعر بالتهميش والعزلة. هذه الفئات مسلحة بالعنف وبشعارات الغضب تجاه الغرب كما تجاه النظام الإقليمي والأنظمة السياسية، كما في سورية والعراق.

ما يقع في العالم العربي في ظل ترك كل من العراق وسورية ضحية المذابح ضد المدنيين يؤثر في أوروبا التي تعيش تناقضاً كبيراً بين استقبال اللاجئين وبين التدخل في الإقليم، وبين منع وصول الإرهاب إلى أراضيها، ومحاولة العزلة التي تبدو صعبة المنال.

علينا أن ننتبه إلى أن هناك حالة تردٍّ في وضع الدولة في العالم كله، إذ لم تعد السياسة كالسابق عندما كانت السلطة السياسية أو ما يعرف بالحكومة تملك مكونات القوة والسلطة والتأثير كاملة غير منقوصة. مع الوقت نكتشف أن الدولة في أوروبا كما في الشرق العربي فقدت، بسبب نزيف مستمر منذ عدة عقود، الكثير من مكونات القوة والتأثير التي ميزتها في السابق. كانت السلطة السياسية تجمع ببراعة ووضوح بين القوة بكل مكوناتها (تنفيذاً وتحقيقاً وقدرات) والسياسة بصفتها القدرة على برمجة الأولويات وخلق الإجماع بهدف التنفيذ. هذه الحالة أبرزت قادة مؤثرين في الشرق الأوسط كما في العالم (الملك فيصل، الرئيس عبدالناصر، أيزنهاور وروزفلت، تشرشل وغيرهم).

العالم تغير بصورة أساسية والدولة ضعفت بسبب بروز لاعبين جدد ينتشرون أساساً خارج الدول. لقد ارتبط هذا بسقوط الحدود بنسب متفاوتة في ظل ثورة المعلومات واسعة النطاق، وفي ظل «ويكيلكس» وجوليان أسانج والربيع العربي والخصخصة في العالم والشركات العابرة للقارات وتنظيم «الدولة الإسلامية» وقبله»القاعدة»وغيرها من الظواهر. هذه الأبعاد الجديدة، والقادم أكبر، تثبت طبيعة الفصل بين مقومات القوة ومقومات السياسة في واقع الدولة. كل ما وقع في العقد الأخير أفقد الدولة الكثير من قوتها وترك لها السياسة بلا تأثير أو قدرة على التغيير.

الدولة مستمرة بصفتها المعروفة، ككائن سياسي يسمح ويرفض، يوافق ولا يوافق، لكنها لم تعد القوة الأساسية على أرض الواقع كما تؤكد حروب الكوكب أو حروب الإقليم العربي، أو حتى حروب الولايات المتحدة في كل من أفغانستان والعراق. معظم الاقتصاد التقليدي كما نعرفه خرج عن إدارة الدولة في معظم دول العالم، وحيث مازالت الدولة تدير الاقتصاد (باستثناءات قليلة جداً) نجدها مثقلة بالديون والصعوبات. إن الدولة التي تتراجع أمام قوى ناشئة في المجتمع والقطاع الخاص المنتشر والأجهزة غير الحكومية والمؤسسات والرأي العام والجماعات تترك فراغاً كبيراً في العالم. إن انتشار المنظمات المسلحة خارج الدول في العالم كله (دويلات المخدرات مثلاً في المكسيك وأميركا اللاتينية) وليس في الشرق الأوسط وحده انعكاس لهذا الوضع ودليل على عدم تأقلم الدولة مع التغيرات الجديدة. فاحتكار الدول أدوات العنف في تراجع، وربما بعد زمن ستكون المجتمعات قادرة من خلال صيغ جديدة للعدالة والحريات والديمقراطية على إيجاد حلول جادة لإشكالية العنف في بيئات جديدة. في المستقبل ستكون الانتخابات البلدية أكثر أهمية من الانتخابات الوطنية في الكثير من الدول الديمقراطية.

الدولة في العالم العربي في مأزق أعمق من ذلك الذي تمر به أوروبا، فهي بالأساس لم تمر بالمرحلة الديمقراطية ولم تطور البيئة القانونية والسياسية أو حتى التعليمية التي تسمح لها التعامل مع المستجدات بمرونة، فالدولة في العالم العربي مؤسسة ضخمة تسيطر على الاقتصاد والمجتمع المدني والجامع والشارع والبلدية والأقاليم وكل نشاط ممكن. وهذا جعلها ترعى الاحتكار الذي يؤدي بطبيعة الحال إلى تدمير التنافسية والمهنية في الاقتصاد كما في السياسة، وهذا يدفع باتجاه انتشار الفساد.

لقد تحولت ممارسات الدولة العربية إلى مانع جاد أمام نشوء الطبقات الوسطى ذات التأثير. فمن خلال القوة الخشنة التي آمنت بها ساد دور الأمن وسيطر الجيش في الشأن الداخلي، وعلت مكانة السجون للمخالفين وسياط القضاء للمتمردين. القوة الخشنة التي سعت إليها الدولة العربية ساهمت مؤخراً في سقوط الكثير من الدول العربية في واقع الدولة الفاشلة.

ويمكن القول إن الدولة العربية التي لم تمر بالمرحلة الديمقراطية تجد أنها غير مستعدة لمتطلبات المرحلة. ربما لو نجحت في خلق بعض التحولات الديمقراطية قبل العام 2011 أو بعد غزو العراق للكويت العام 1990 لكانت ستكون كتركيا التي تملك قدرة أعلى على امتصاص الأزمات والتعامل مع ما يهددها. في النهاية تعتمد تركيا، (على رغم نواقص وتحديات جمة) على ديناميكية واضحة بين دولة وشعب وتيارات اجتماعية مستقلة وتفاعل بين مؤسسات منتخبة.

في المقابل، أدى النمو الكبير لوسائل التواصل الاجتماعي لدى جمهور كبير من العرب إلى المقارنة الدائمة بين واقعهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي وبين الواقع في العالم. في السابق كانت الدولة العربية في مجتمعاتنا تحتكر المعرفة والإعلام، لكن هذا الاحتكار سقط بصورة كبيرة، فالدولة الآن لم تعد تحتكر المعرفة، على رغم أنها تأخذ قرارات تتعلق بمنع كتاب وتجريم رأي، ولديها تلفزة وطنية، لكنها في الحقيقة غير قادرة على التأثير في صياغة الرأي إلا في حدود قليلة. إن الاتجاه في المراحل المقبلة هو إلى مزيد من تأثر الناس والأفراد بما هو قادم من خارج الحدود أو لما هو قادم من جماعات تقع في جلها خارج الدولة وسلطتها، فقدرة الدولة على وضع سياج حول شعبها وحدودها لم تعد ممكنة كما أن قدرتها على احتكار الواقع الاجتماعي والسياسي لم تعد ممكنة أيضاً. الأفكار تنتقل كما التجارب سواء كانت ثورية أم راديكالية، إسلامية أم ديمقراطية، هي الأخرى تنتقل في الداخل كما من الخارج إلى الداخل. ستبقى الدول تصنع الكثير من القرارات لكن مع الوقت ستبدو تلك القرارات إعلانات لا تنجح في تغيير الواقع والتأثير على مجريات الأمور.

لقد فقدت الدولة العربية قدرتها على منع المعارضين السلميين وحملة الأفكار النقدية؛ لأنهم ينتشرون في فضاء مفتوح، وهي في الوقت نفسه ضحية عالم لم تتأقلم معه ولم تستعد إليه بالأساس. الدولة ما زالت ضرورة إنسانية في كل العالم، لكنها في العالم العربي في مأزق يزداد جدية، فالخرائط العربية الصامدة حتى اليوم بإمكانها أن تصمد بالفعل عندما تبرز في الإقليم تلك الحاجة للتوقف عن الإقصاء والانتهاك. لا تطور بلا نقد ونقدية وبلا دراسة لكل سياسة وتاريخ ومن زوايا مختلفة. وبإمكان النظام العربي أن يتبع سياسة أكثر تركيزاً على حوار مجتمعي تشارك فيه كل القوى الفاعلة سواء كانت في السجون العربية أم خارجها أم في المنافي أو في الحكم. الأوطان بحاجة إلى المجتمعات كما الأفراد، ومن دون المجتمعات وممثليها ستستمر الدولة الفاشلة بالزحف على أغلب الأمكنة العربية.

إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"

العدد 4956 - الجمعة 01 أبريل 2016م الموافق 23 جمادى الآخرة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 1:02 ص

      الجواب ببساطة كما قال عادل :( لا الحكومة تعرفنا ولا احنا عايزين نعرف حد)
      ....

اقرأ ايضاً