العدد 4956 - الجمعة 01 أبريل 2016م الموافق 23 جمادى الآخرة 1437هـ

ما نجهله عن هناك!

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

من الواجب على المرء أن يُشعِر ذاته «دائماً» أنه يجهل أكثر مما يعلم. في هذا الإشعار للذات فائدتان. الأولى أنه تدريب للنفس على التواضع. والثانية لأن ذلك هو الحقيقة. فهذا العالم الممتد، بكل ما فيه من بشر وحجر، وتاريخ وأحداث وأسرار فإن المرء يعجز عن إدراك الأشياء أكثر مما يجهلها.

وربما يكون المشتغلون بالصحافة والكتابة، أكثر الناس قرباً في متابعة الأحداث، متابعة تُسعفهم كي يدركوا وأن يفهموا أو يُأوّلوا ما يجري، إلّا أن هؤلاء هم ذاتهم أكثر الناس اكتشافاً أنهم بعيدون عن العلم بالأشياء علماً حقيقياً؛ والسبب، أن متابعتهم الحثيثة لما يجري هي كالسَّراب، حيث يظنونه ماءً ثم يكتشفون أنه مجرّد سراب، وسط كل هذا السّعير الذي يُلهِب المحيط.

مثل هذا الأمر يجعلنا أمام حقيقة واحدة، وهي أن الجهل بالأشياء أو نِصْف الجهل بها يُحتّم علينا أن نتحدث عنها بنسبية وليست كحقائق ومُسلَّمات. نعم، يمكن للمرء أن يصل إلى نتائج وقناعات محدّدة لكنها قد تتغيّر في موقعها طبقاً لتكشّف الحقائق المتوالية التي تأتي تباعاً.

أقول هذا الكلام، رابطاً إياه بما أكتبه اليوم حول تجربة سأتطرق إليها في هذه الأسطر. شخصياً من الأشياء التي واجَهْتها ضمن ذلك الوصف في متابعاتي هي مسألة دارفور. وهذا الاسم حين يسمعه المرء، فإن تعريفه يذهب مباشرة إلى أنه أحد الأقاليم السودانية المضطربة منذ زمن، ولايزال.

الذي كنا نسمعه عن دارفور لم يكن أزيد من صراع دموي هدفه الانفصال، وأن هناك مليوني لاجئ فروا من ديارهم، وأن المحكمة الجنائية الدولية قد أصدرت قرارات بشأن تلك القضية، وأن مسائل الرّعْي بين القبائل والتنافس على النفط هما سبب ذلك في تلك القضية. وفي أحوال أخرى كان يقول أصحاب «النظرة التآمرية» إن المسألة هي مخططٌ غربي تقسيمي. يقولون ذلك ليريحوا أنفسهم.

لكن الصحيح، أن الأسباب أعمق مما يذكرونه. بعضها تاريخي ثقافي وآخر اجتماعي. نعم، هناك حالة قَبَلية شديدة التعقيد في ذلك الإقليم، لكنها ليست المشكلة الأم. غاية الأمر أن القبائل الدارفورية كانت تقوم بدور تنظيمي لعملية الرَّعْي خلال فترة تساقط الأمطار في فصل الصيف كي لا تقوم صراعات اجتماعية على المراعي، وكذلك دورها في فض المنازعات بطريقة تقليدية جداً.

نعم، هناك أيضاً حالة من الترقب لمسألة النفط بعد أن اكتُشِف في غرب كردفان (والأهم) تشاد وهي بجوار دارفور الأمر الذي انعكس على مستقبل الإقليم والرؤية المستقبلية للطاقة «المفترضة» فيه، وإمكانية تربّعه على عرش النفط في وسط إفريقيا. لكن هذا الأمر أيضاً ليس هو كل المسألة.

عندما بدأت التدقيق والتركيز في المسألة ظهر أن الأمر أعمق وأبعد من كل ما كنا نسمعه. أولاً وقبل كل شيء، دعونا نتفحّص هذا اللفظ: دارفور! الحقيقة أن المعلَن هو أن التسمية ربما جاءت نسبة إلى قبيلة الفُور كإحدى قبائل الإقليم. لكن، قد يكون هناك تفسير آخر يمكن للمتابع أن يتنبأه. ففي اللغة، فإن فَوْر الحر هو شدته. وقد تكون هذه التسمية مرتبطة بذلك نظراً لمناخ دارفور.

هناك تفسير آخر. فلأن هذا الإقليم مشهور بكثرة المراعي (البعض يُقدِّر عدد الماشية فيه بـ 200 مليون رأس) فقد جاءت التسمية ارتباطاً بذلك. فمن معاني الفُور هو الظباء، لذلك «قد» تكون التسمية مرتبطة بذلك الأمر، وأن هذا الإقليم هو دارٌ للظباء. هذا فيما خصّ التسمية.

الأمر الآخر الذي يجب أن يُعلَم في أمر هذا الإقليم، أنه كان في السابق، دولة مستقلة، لها نظامها السياسي وشعبها المتجانس، وتعاقب على حكمها العديد من السلالات، قبل أن تقوم دولة اسمها السودان أصلاً. فكان هناك ملوك الداجو والتنجور والكيرا الذين حكموه وتسيّدوا عليه.

وعند جمع هؤلاء الحكام، نجد أن بعض المصادر تُرجِّح أنهم في حدود الـ ثلاثين حاكماً تقريباً. وقد بُسِطَ الإسلام في هذه الدولة بشكل كامل في العام 1600م. ونشطت هذه الدولة التي كانت تحت حكم الكيرا، وأنشأت لها علاقات دولية، جعلتها تدخل في أحلاف سياسية وعسكرية.

لكن الذي يظهر أن جذور الإسلام كانت أسبق من ذلك بكثير. وربما قُصِدَ من ذلك، هو تمثّل الدولة بالشكل الديني الكلاسيكي. فالذي وَرَدَ أن أهل دارفور كانوا يأتون بكسوة الكعبة بوقت أسبق من ذلك بكثير، وكذلك الحال بالنسبة لطريق الحج والقوافل.

وخلال المئتي سنة الماضية (أو أقل بثلاثة عقود) كانت دارفور تضم كافة الطرق الصوفية، فضلاً عن مذاهب الإسلام جميعها. لذلك كان أغلب الجهاديين في الحركة المهدية، قد جاؤوا من تلك المنطقة. وخلال الحرب العالمية الأولى وقف الدارفوريون مع العثمانيين من منطلق ديني ضد دول المحور، وهو ما أدى إلى أن ينالوا مثل ما نال المنهزمون في الحرب كألمانيا وتركيا، إلّا أن ما حصل لهم كان أشد، حيث عُوقِب هذا الإقليم عبر سدّ كافة الطرق إليه كما يذكر أهل الدراية.

وقد راجعتُ العَلَم المرفوع من قبل الحركات الانفصالية في درافور اليوم فوجدت أنه قد صُمِّم على هيئة دينية إسلامية، وهو ما يُفسّر جانباً من دفوع تلك الحركات ذات النزعة الإسلامية، مرتكزة على الإرث الثقافي الذي تحصّلت عليه تاريخياً.

الحقيقة، أن إقليم دارفور ليس وحده الذي نجهله بل عموم تلك المنطقة التي أهملناها لفقرها ومشاكلها. فالتاريخ يشير إلى أن هذه القارة كانت مفتوحة على بعضها قبل أن يأتيها الغربيون ويحوّلوها إلى أمصار مختلفة. لذلك، فإن من الأهمية أن نلقِي لها بالاً واهتماماً، فهي لا تبعد عنا كثيراً بعرف الزمن والجغرافيا.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4956 - الجمعة 01 أبريل 2016م الموافق 23 جمادى الآخرة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 9:23 ص

      نجهل الكثير كما نعرف القليل وهنا في العالم السفلي أو في العوالم الأخرى من هذا الكون الفسيح لا يقال إلا إنا لله وإنا غليه راجعون وإفوض أمرى إلى الله إن الله بصير بالعباد... لا تتعب ولا تشقى فمصير جميع البشر إلى الفناء خلقوا ولم يخلقو للبقاء. فهل بقى ابو جعفر المنصور أو ابو مصعب الزرقاوي وغيرهم من الآفات التى أصابت المجتمعات المجتمعة؟

    • زائر 1 | 12:52 ص

      هذا الأمر لا يهمّ الدول العربية، ومتى كانت للحكومات العربية أي اهتمام بمواطنيها وحقوقهم؟
      اصلا الحكومات العربية تخطط للتخلّص من بعض شعوبها

اقرأ ايضاً