العدد 4980 - الإثنين 25 أبريل 2016م الموافق 18 رجب 1437هـ

المعارضة العربية وتغييب النقد الذاتي... مجيد مرهون نموذجاً

رضي السماك

كاتب بحريني

لعل المناضل العالمي الكبير الجنوب إفريقي الراحل نيلسون من القلة في العالم الذين قُيض لهم أن يعمّروا بعد أن قضوا شطراً مديداً من حياتهم خلف القضبان، فقد رحل عن عمر ناهز الـ95 عاماً، على رغم أن 27 سنةً من هذا العمر أمضاها في السجن، فإذا ما خصمنا هذه المدة من حياته يكون عملياً قد عاش طليقاً 68 عاماً فقط. ومع أن الأعمار بيد الله فكم يا تُرى كان مانديلا سيعمّر لو لم يدخل السجن أصلاً قط؟

السجن هو السجن ينال من صحة الإنسان النفسية والبدنية وعمره مأخذاً على اختلاف ظروفه من سجن إلى سجن آخر في شتى دول العالم، وعلى اختلاف مُدد السجن، فمن نافلة القول كلما ازدادت ظروف السجن سوءاً وطال مكوث السجين فيه ازداد نيله من صحته ومدى عمره الافتراضي والعكس صحيح. تداعت هذه الخواطر بي وأنا أتأمل بأسى وحزن شديدين الرحيل المبكر للفنان والموسيقار العبقري البحريني الكبير الراحل المناضل مجيد مرهون (1945 - 2010) خلال مناسبتين جرتا في الشهر الجاري، الأولى خلال اُمسية إحياء بعض سيمفونياته الخالدة المعروفة بـ «سيمفونيات الذات» بالتعاون بين أكاديمية ريد بيل للموسيقى وهيئة البحرين للثقافة والآثار، وبالتنسيق مع الفنانين الأخوين سلمان وخليفة زيمان، والمناسبة الثانية خلال المقطوعة الموسيقية التي عزفها عازف الفلوت الفنان البحريني أحمد غانم في حفل تأبين الفقيد النقابي عبدالأمير الشاخوري بمقر المنبر التقدمي، وألفها الفنان الراحل مرهون في مناسبة وفاة والدته وهو في السجن.

ولم تقتصر الأعمال الفنية التي ألفها مرهون من داخل سجنه على السيمفونيات والمقطوعات الموسيقية التي أبهرت الأساتذة وكبار الموسيقيين في العالم، منذ أمكن تسريب بعض نوتاتها من داخل السجن إلى خارج البحرين، بل شملت تأليف الكتب الموسيقية والتي بلغت نحو خمسة مؤلفات، من بينها «الأسس المنهجية لدراسة نظرية الموسيقي»، لكن يبقى أهمها على الإطلاق «قاموس الموسيقى الحديث»، وهو بمثابة موسوعة ضخمة من عدة مجلدات، تكفل مركز الشيخ إبراهيم بطباعته، لكن معظم أجزائه لم يصدر بعد، وتتجلى عظمة هذا الإنجاز من كون التأليف الموسوعي، عملاً كبيراً لا يتصدى له في العادة إلا مجموعة من كبار المتخصصين، فما بالك حينما يقتصر إنجازه على فرد واحد في ظروف بالغة الصعوبة، وميزة هذا النوع من المؤلفات أنه يظل مرجعاً علمياً مفيداً لا غنى عنه للباحثين وأساتذة وطلبة الدراسات الموسيقية على تعاقب الأجيال.

والمُدهش حقاً أن صاحبه كتبه بلغة بحثية عربية سليمة وراقية، هو الذي لم يسعفه الحظ لإكمال دراساته العليا. (بعد إتمام كتابة هذا المقال نشرت «الوسط» بتاريخ 21 أبريل/ نيسان الجاري مقالاً للزميل عبد النبي العكري مناشداً تكريمه بصورة أفضل، ورد الاعتبار إليه، وتناول فيه محطات ومعالم من ظروف مرهون المعيشية ومسيرته الفنية).

دخل الفقيد الراحل مرهون السجن العام 1968 شاباً يافعاً في مقتبل العمر لا يتجاوز الـ 23 عاماً، على خلفية إدانته بارتكاب عملية تفجير بحق إحدى القيادات الأمنية في «القلعة»، وخرج منه كهلاً في مثل هذا اليوم (26 أبريل/ نيسان من العام 1990) وعمره 45 عاماً، ليعيش بعدئذٍ 20 عاماً فقط مما تبقى من حياته قضى نحو ربعها يصارع المرض، ليتوقف نبض هذا القلب الإنساني الكبير عن 65 عاماً، فإذا ما طرحنا فترة سجنه الـ 22 عاماً من عمره، يكون عملياً قد عاش طليقاً 43 عاماً فقط. لكن يا تُرى كم كان سيكتب الله له من العمر لو لم يدخل السجن قط؟ أو لنقل لو دخله لفترات وجيزة ومتقطعة من مسيرته النضالية كحال بقية رفاقه؟ بيد أن السؤال الأهم من كل ذلك، ونطرحه هنا من باب الاجتهاد والحاجة للمكاشفة والشفافية، أو «الجلاسنوست» بحسب التعبير الروسي خلال حكم غورباتشوف آخر رئيس للاتحاد السوفياتي قبيل انهياره: لماذا وقع الاختيار لتنفيذ هذه العملية، والتي لم يكن لها أي مردود أو جدوى نضالية، ولا تتسق مع النهج النضالي السلمي للتنظيم الذي خطط لها على هذا النابغة والمبدع الموسيقي المتفرد النادر تحديداً؟ لتخسر الساحة الثقافية الفنية وليخسر تنظيمه ووطنه عبقرية إبداعية فذة «لا تعوّض» بكل ما لهذا التعبير من معنى، إن بسجنه الطويل وإن برحيله المبكر، علماً بأن نبوغه الموسيقي وتولعه وعشقه للموسيقى معروف لتنظيمه وللقاصي والداني وبرز منذ نعومة أظفاره.

على أن الفقيد مرهون ليس سوى نموذج، إذ تختزن المسيرة النضالية للمعارضة الوطنية البحرينية والمعارضات العربية جمعاء نماذج لا حصر لها من «القرابين» التي ذهبت تضحياتها، سجناً أو قتلاً، سُدى دونما حاجة موضوعية قصوى تستدعي ذلك، هذا بفرض صحة المهمة النضالية الموكلة إليهم، أو لو جرت بعدئذ مراجعات سياسية وفكرية مهما كانت مؤلمة لدى كل محطة من محطات مسيرتها النضالية. وما ينطبق على المناضل الضحية مرهون ينسحب على المناضل الفذ الضحية محمد بونفور (استشهد إثر انفجار غامض بالمحرق صيف العام 1973) وهو الآخر راح ضحية أسلوب نضالي خاطئ برمته، كما وينطبق ايضاً، بسبب شيوع ثقافة هذا الأسلوب الكفاحي بين الشباب اليساري الجديد، على كل ضحايا تداعيات عملية اغتيال رئيس تحرير مجلة «المواقف» الشهيد عبدالله المدني، إعداماً وسجناً لكوادر من كلا الفصيلين (الشعبية والتحرير) في خريف 1976، وفي عدادهم الشاعر الوطني الشاب سعيد العويناتي ومحمد غلوم.

وحينما يدخل السجون الإسرائيلية مناضل عربي ليس فلسطينياً وقع عليه الاختيار من قِبل فصيل فلسطيني صغير لتنفيذ عملية عسكرية دون مراعاة لحداثة سنه (16 عاماً ونيف) ويمكث فيه 30 عاماً ويثبت في السجن نبوغه وتفوقه العلمي ألا يكفي ذلك ما قدمه من تضحية كبيرة من سنوات عمره لندعه ينعم بما تبقى له من عمر في استراحة قصيرة بعد الإفراج عنه، أو على الأقل ليُكلف من قِبل تنظيمه الجديد بمهام جهادية سياسية غير القتال؟ وقس على ذلك، على سبيل المثال، أي مناضل قيادي وطني في أي بلد عربي يخرج للتو من سجنه ويندفع في الحال أو يسكت تنظيمه عن اندفاعه للمواجهة السياسية مع سلطة بلاده، ليُعاد إليه مجدداً خلال أيام معدودة دونما يمنح نفسه أية فرصة لالتقاط الأنفاس والمراجعة الذاتية في إطار ما يُعرف ب «استراحة المناضل» وبخاصة حينما لا يكون تنظيمه بحاجة آنية ملحة لتدفيعه هذه الضريبة وتتوفر لديه، بافتراض صحتها وضرورتها جدلاً، من يقوم بها عوضاً عنه في سياق توزيع الأدوار أو التناوب في الاضطلاع بها.

على أن التجربة النضالية التاريخية لحركة التحرير الوطني الفلسطينية بكل فصائلها تمتلك أكبر مخزون من الأخطاء الذاتية القاتلة، والتي لم تتم مراجعتها أو الاعتراف الشجاع بها منذ انطلاقتها المسلحة على يد كبراها «فتح» قبل نصف قرن (يناير/ كانون الثاني 1965) والجدير بدراستها والاستفادة من دروسها من قِبل كل المعارضات العربية لا الفلسطينية وحدها. وليست الأخطاء التي وقعت فيها المعارضات العربية فيما بات يُعرف بهبات أو ثورات الربيع العربي المجهضة بمعزل عنها. وصفوة القول لقد آن الأوان لكل حركات وأحزاب المعارضة في الأقطار العربية كافةً إجراء مراجعات سياسية وفكرية عاجلة لاخفاقاتها «السيزيفية» المتكررة وعدم اجترار التبرير المبتذل، لتأجيلها مرات ومرات بذريعة لم يحن بعد أوان إجرائها، تماماً مثلما كانت الأنظمة القومية تبرر بعد هزيمة يونيو/ حزيران 67 رفضها النقد الذاتي لأسباب الهزيمة تحت ذريعة شعارها العتيد: «لا صوت يعلو على صوت المعركة»، وهو النقد المعطّل رسمياً إلى يومنا هذا منذ نحو 50 عاماً!

إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"

العدد 4980 - الإثنين 25 أبريل 2016م الموافق 18 رجب 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 10:26 ص

      أخي الأستاذ الكاتب..

      مقالك نقدي وهذا حقك،وفي طياته الكثير من الفوائد،لكن فيه أيضاً نوع من المغالطة قد تصل إلى مشكلة (جلد الذات)،وهذه معضلة الكثير من المنظّرين العرب.
      فيما خصّ موضوع المناضل الكبير الشهيد (سمير القنطار) فأنا أدعوك لمشاهدة المقابلة مع زوجته الإعلامية (زينب البرجاوي) لكي تقف على حقيقة سلوكه هذا الدرب الجهادي،بإختياره وإصراره،وليس تحت أي ضغط من تنظيمه كما أوحيت.
      تحياتي لك..

اقرأ ايضاً