العدد 4994 - الإثنين 09 مايو 2016م الموافق 02 شعبان 1437هـ

مانديلا ونيرودا يظهران في مناسبتين

رضي السماك

كاتب بحريني

في خضم طوفان أخبار كوارث الحروب الأهلية والإقليمية والفتن الطائفية التي ما برحت بعض شعوبنا العربية تكتوي بنيرانها وأهوالها، فيما بعضها الآخر ينام ويصحو على كوابيسها، بثت وكالات الأنباء أواخر الشهر الماضي خبرين من فلسطين وتشيلي، كلاهما ينطوي على مغزى ودلالات سياسية بعيدة المدى. الخبر الأول الخاص بفلسطين عن الإعلان عن وصول تمثال برونزي فخم شاهق إلى رام الله، للمناضل العالمي الكبير نيلسون مانديلا، بطل القضاء على النظام العنصري الأبيض في جنوب أفريقيا، بعد أن احتجزته «إسرائيل» لمدة شهر، والتمثال مُهدى من بلدية جوهانسبرغ بجنوب إفريقيا إلى بلدية رام الله الفلسطينية، وهو الأول من نوعه للزعيم مانديلا تهديه جنوب إفريقيا إلى بلد صديق .

وقد جرى احتفال مهيب لتثبيت التمثال في أحد أشهر ميادين المدينة، والذي سيحمل اسم مانديلا وبحضور الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس بلدية جوهانسبرغ باركس تاو ورئيس بلدية رام الله موسى حديد. ولعل المغزى السياسي لهذه اللفتة الجنوب إفريقية غير خافية على أي مراقب سياسي لبيب، إذ لا تمثل هذه البادرة بما تعبّر عنه من تضامن شعب وقيادة جنوب أفريقيا مع قضية الشعب العربي الفلسطيني ونضاله العادل من أجل نيل كامل حقوقه المشروعة واستقلاله الوطني فحسب؛ بل وبما تنطوي عليه هذه اللفتة أيضاً من إشارة ضمنية لا تخطئها العين بمساواة النظام الصهيوني العنصري بنظام «الأبارتيد» السابق في جنوب إفريقيا، وهو ما يشكل ضربة معنوية موجعة لمحاولات «إسرائيل» إبراز وجهها القبيح أمام العالم بخلاف ذلك، ورفع الغشاوة عن عينها بتوهمها غداة انهيار الاتحاد السوفياتي ودول المعسكر الاشتراكي مطلع تسعينيات القرن الماضي، بأنها بكسبها المعركة السياسية التي حشدت لها بالتحالف مع حلفائها الغربيين وعلى رأسهم الولايات المتحدة وعدد من دول العالم الثالث من أجل إسقاط قرار الأمم المتحدة الشهير الصادر العام 1975 بوصم الصهيونية كشكل من أشكال العنصرية، قد أقنعت الضمير العالمي بوجهها الديمقراطي الإنساني اللاعنصري

ولم تكن الولايات المتحدة حليفةً وداعمةً للنظام العنصري الصهيوني التي تمثله «إسرائيل»؛ بل وظلت تربطها أوثق العلاقات مع النظام العنصري المدحور في جنوب أفريقيا، والمخزي أنه حتى بعد أن تحرّر شعب جنوب أفريقيا من هذا النظام البغيض وانتخب زعيمه رئيساً للبلاد، وعلى رغم ما يتمتع به من مكانة وشعبية عالمية متفردة كرمز وقدوة أسطورية نضالية لشعوب العالم، فإن واشنطن أبقت اسمه ضمن قائمة أسماء الإرهابيين في العالم إلى ما قبل وفاته بسنوات قليلة .

أما الخبر الثاني الوارد من تشيلي، فيتعلق بتكريم وإعادة الاعتبار لشاعرها ومناضلها الكبير بابلو نيرودا، الذي تُوفّي في ظروف غامضة بعد أيام قلائل من الانقلاب العسكري الفاشي الدموي الذي جرى في العام 1973 بقيادة الدكتاتور الجنرال اوجستينو بونشيت على حكومة الوحدة الشعبية المنتخبة والرئيس المنتخب سلفادور الليندي، وبتخطيط ودعم مباشر من قِبل الولايات المتحدة الراعية الأولى للديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم! وقد ساد الاعتقاد لسنوات طوال بفضل الدعاية الفاشية للنظام الجديد المضللة أن الشاعر إنما توفي بُعيد الانقلاب بالمصادفة جراء مرض عضال، لكن سائقه الخاص شكّك بقوة في أمر الحقنة السامة التي حُٰقن بها قبيل توجهه إلى المكسيك لقيادة النضال في منفاه الاختياري ضد الطغمة العسكرية الجديدة الحاكمة التي انقضت على السلطة بالدبابات، وقتلت رئيس البلاد المنتخب وهو يقاوم الانقلابيين من داخل القصر الرئاسي. وبناء على ذلك تم نبش رفات الشاعر لتحليلها للتأكد من مدى وجود أي أثر جنائي لوفاته المفاجئة.

وفي حفل مهيب، جرى تكريم نيرودا رسمياً، وإعادة الاعتبار إليه توطئةً لإعادة دفن رفاته المستخرجة من قبره، وغُطي نعش الشاعر العظيم بعلم بلاده في صالون الشرف بالكونغرس التشيلي، وأقام أعضاء البرلمان مراسم وداع رسمية. فمن كان يا تُرى يخطر بباله ولو لبرهةٍ، أنه بعد مضي 43 عاماً من ذلك الانقلاب الأسود، أن يأتي مثل هذا اليوم ليُردّ الاعتبار له ومن خلاله حكومة الوحدة الوطنية المنتخبة، وفي هذا المكان بالذات (البرلمان) الذي جعله بينوشيت أمعة لسلطته الانقلابية؟

لم يكن نيفتالي رييس باسوالتو، وهو الاسم الحقيقي للشاعر المناضل بابلو نيرودا الذي اتخذ من هذا الاسم اسماً مستعاراً له تيمناً باسم الشاعر والقاص التشيكي جان نيرودا الذي عاش في القرن التاسع عشر، وكان شديد الإعجاب بتركته الأدبية، لم يكن شاعراً لتشيلي فحسب؛ بل كان رسولاً للسلام العالمي وواحداً من أعظم شعراء الإنسانية في القرن العشرين. ونظراً لمكانته السامية التي تبوأها في بلاده والعالم، فقد عُيّن في مناصب قنصلية ودبلوماسية في عواصم ومدن كثيرة من العالم خلال أنظمة متعاقبة في بلاده، كما فاز بجائزة نوبل للآداب سنة 1971 رغم وجهه اليساري المعروف عالمياً كقيادي في حزبه الشيوعي التشيلي، أحد أحزاب حكومة الوحدة الوطنية الائتلافية التي أطاحها انقلاب بينوشيت في العام 1973. ومنحته جامعة أكسفورد الدكتوراه الفخرية، كما كان صديقاً لشاعر أسبانيا الكبير فيدريكو لوركا الذي اغتاله أزلام الجنرال فرانكو في الحرب الأهلية الأسبانية أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، وكان الشاعر الشهيد لوركا مُعجباً بشعر نيرودا، ولطالما نظّم له مهرجانات شعرية تكريمية له أمام طلبة جامعة مدريد خلال زياراته لها، وقد صُدم هذا الأخير لمقتل صديقه لوركا أيّما صدمة، وطاف حول العالم لنصرة الجمهوريين خلال الحرب، ثم للتنديد بحكومة فرانكو بعدما استتب الأمر لها في السلطة.

وإذ جاء الاحتفالان اللذان نُظما في وقت متقارب للمناضلين العالميين، مانديلا ونيرودا، من خلال احتفالية نصب تمثال للأول مُهدى للشعب الفلسطيني في أحد ميادين رام الله كبادرة رمزية تضامنية مع قضيته في الكفاح ضد العنصرية الصهيونية، ومن خلال احتفالية التوديع لنعش الثاني من داخل برلمان تشيلي، فقد ظلت ذكراهما تقض مضاجع دكتاتوريي العالم، معاصرين وراحلين، فهل تكون في الاحتفاليتين عبرةٌ باستحالة الإفلات من العقاب عاجلاً أم آجلاً، من خلال الإدانة القضائية الدولية أو التاريخية الأخلاقية؟

إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"

العدد 4994 - الإثنين 09 مايو 2016م الموافق 02 شعبان 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 10:20 ص

      مقال رائع أستاذ رضي . . ووقفة تقييمية صادقة مع كبار
      المناضلين من أجل الحرية والديموقراطية

    • زائر 1 | 9:38 ص

      من أتباع أو من أعوان ؟
      ليس بغريب ولا عجيب أن تستضيف اليوم أحداً بعد رحيل نلسون مان ديلا من دار الفناء أي دار الدنيا. فيقال رحل الجسد وبقت ذكرى مانديلا خالده رغم سجنه ربع قرن ظلماً وعدوانا. فعدو البشر إبليس وأعوانه الشياطين. فلا يقال أن من البشر كان النمرود. ولا يقال من رمى أو قذف القنابل النووية على هيروشيما ونكازكي كان طائر سلام لنشر الرعب في قلوب اليابانيين. هذه ومناسبات أخرى تذكر الناس على ضرورة إنتخاب من يصلح أمرها لا أن يزيد من الأمر مر. وهنا دور أبو مرة أي أحد اعوان إبليس من المردة.

اقرأ ايضاً