العدد 5016 - الثلثاء 31 مايو 2016م الموافق 24 شعبان 1437هـ

فيتنام من محور الأعداء إلى درب الحلفاء

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

هل حقاً قلبت رحلة باراك أوباما الأخيرة إلى مدينة هوشي منه (سايغون سابقاً) صفحة من الماضي وأغلقت ملف عداءٍ امتد لأربعة عقود منذ نهاية الحرب الفيتنامية؟ ثم من سعى إلى تطبيع العلاقة وإنهاء الخصام ولماذا؟

بالطبع ليس سهلاً في قضايا شائكة كهذه الجزم بإجابات قاطعة ومحددة، بيد أن ثمة آراء متقاربة وأخرى متباعدة أجمعت بأن الزيارة مهمة وتمثل منعطفاً تاريخياً لجهة متغيرات مسار السياسة الخارجية الأميركية، وتحوّلها الذي يميل للتهدئة وسياسة الاستنزاف الناعمة، ورفض المشاركة في عمليات عسكرية برية معلنة، إضافةً إلى جهودها للانفتاح على الخصوم التقليديين تماماً كما حدث مع كوبا، وما نتج عنه من اتفاقات، وما بدأ يتشكل بعد الاتفاق على الملف النووي الإيراني، والاستدارة باتجاه آسيا والشرق الأقصى، لاسيما زيارة فيتنام التي تعتبر الأهم استراتيجياً، والتي يمكن تناول مؤشراتها من نواحٍ سياسية واقتصادية.

قبلها لنفتش في صندوق التاريخ الذي دفع المحللين السياسيين لإثارة الأسئلة؛ بشأن ما حدث وجعل الخصمين اللدودين يسعيان إلى طيّ صفحة الماضي، وإقناع شعبيهما بضرورة تطبيع العلاقة بينهما؟

صندوق الذاكرة الشعبية

مهما قيل في زيارة أوباما، فالتاريخ البعيد والقريب يستفز الذاكرة الشعبية الفيتنامية للنظر في مسرح الأحداث والعودة إلى زمن الحرب الفيتنامية التي خاضتها الولايات المتحدة بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية (19 عاماً) كطرف، حينها انقسمت فيتنام إلى قسمين شمالي وجنوبي، ساندت فيه أميركا الجنوب وعاصمته «سايغون»، سياسياً وعسكريا واقتصادياً ضد القسم الشمالي وعاصمته «هانوي». ومع تبوء الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون للرئاسة عام 1969، وتحت ضغط الشارع الأميركي للحد من الانخراط في الحرب؛ قرّر سحب 25 ألف جندي أميركي من فيتنام، لاسيما بعد الكشف عن تجاوزات وجرائم ارتكبها الجيش الأميركي بحق المدنيين والعسكريين الفيتناميين، فضلاً عن أكلاف الحرب التي بلغت 60 ألف قتيل و154 ألف جريح أميركي، وعدم معرفة مصير أكثر من 1600 جندي أميركي لم يعودوا إلى بلادهم، ولايزال ذووهم يطالبون أوباما بوضع ملفهم على أجندة زيارته، علماً بأن خسائر الفيتناميين أعظم حيث وصلت لنحو 4 ملايين قتيل، مع إعلان هزيمة واشنطن وانسحابها من فيتنام العام 1973، وما سجّل عليها من خسائر مالية واقتصادية كبيرة في نفس الوقت الذي بدأت تدور فيه رحى أكبر فضيحة تاريخية أطاحت بنيكسون، والتي عُرفت بفضيحة «ووترجيت».

إن خلفية زيارة أوباما التطبيعية لفيتنام وهي الثالثة بعد زيارة بيل كلينتون (2000) وجورج بوش الابن (2006) لها أسباب متعددة تناولتها التقارير أبرزها الآتي...

تهديد الأمن الأميركي

إن قطاعاً مهماً في «البنتاغون» صار على قناعةٍ بأن الأمن الأميركي مهدد؛ إذا ما تحقق للصين الهيمنة واحتكار النفوذ في المنطقة، لاسيما مع استعراض واشنطن وبكين عضلاتهما بعد اعتراض مقاتلتين صينيتين لطائرة استطلاع أميركية في بحر الصين الجنوبي قبل فترة وجيزة. والمنطقة تعتبر شريان التجارة بين دول جنوب آسيا وبين دول الباسيفيك وعلى رأسها واشنطن، حيث تمر من خلالها ما قيمته 5.3 تريليون دولار، ويكمن في أعماقه ما لا يقل عن 213 مليار برميل من النفط، تبعاً للخبراء.

وعليه فإن الزيارة من وجهة النظر الأميركية، تهدف إلى تعميق العلاقات الدفاعية والاقتصادية مع فيتنام، العدو القديم، وتحويلها إلى شريك جديد للمساعدة في مواجهة تنامي القوة الصينية، ما يعني أن فيتنام غدت اليوم محوراً استراتيجياً لواشنطن في إعادة توازن القارة الآسيوية، خصوصاً مع النمو الآسيوي الهائل الذي تتمتع به وبدرجات متفاوتة بعض الدول الآسيوية وخصوصاً الصين، خلال العقود الأخيرة، يقابله مرحلة انحسار وتباطؤ للنمو في اقتصاد أميركا الذي أثّر على انحسار نفوذها الدولي.

رسائل مبطنة للصين

من جهة متصلة، معروف أن الصين وفيتنام تتقاسمان حدوداً مشتركة على بحر الصين الجنوبي، الذي طالما كان محل نزاع، كما تتصارعان على سيادة أرخبيلي «باراسيلز» و»سبراتليز»، الواقعين في قلب الطرق البحرية الدولية، وقد حوّلت الصين مناطق صخرية نائية إلى جزر بها مهابط طائرات وموانئ، ونشرت معدات حفر عملاقة للتنقيب عن النفط والغاز قبالة سواحل فيتنام. فكل هذا وذاك شكّل مادةً مهمةً عزف فيها أوباما على حساسيات المنطقة، لاستمالة فيتنام إلى جانبه من خلال بث رسائل مبطنة للصين تحدّث فيها بأن بلاده ستقف مع شركائها «لضمان حرية الملاحة في آسيا وحل النزاعات سلمياً، وليس من خلال فرض الأمر الواقع، وأن على الدول الكبرى ألا تستأسد على الدول الأصغر»، في إشارة إلى الصين التي لم يذكر اسمها، وهي تطالب بالسيادة على أكثر من 80% من هذا البحر.

وعليه فإن فيتنام طرف في النزاع، ولا تمانع من استغلال تنافس القوى العظمى لمصلحتها، خصوصاً فيما يتعلق بصفقات شراء الأسلحة الأميركية، وهي التي لاتزال معتمدةً على الأسلحة الروسية، وتطمح لتحديث جيشها وخفض اعتمادها على روسيا، لهذا تتقدّم بثباتٍ للتقارب مع أميركا للحصول على ما تريد من تسليح وأجهزة مراقبة واتصال ورصد بحري.

وفي هذا الصدد يرى المراقبون أن الزيارة تتويج لتنفيذ التصريحات الأميركية برفع الحظر على السلاح عن فيتنام، والتي شهدت على هامشها توقيع اتفاقية تسمح «لفيلق السلام الأميركي» بالعمل في فيتنام لأول مرةٍ بعد مفاوضات استمرت أكثر من عشر سنوات. ومن المتوقع البدء خلال العامين المقبلين، حيث يسمح لمتطوعي الفيلق بتدريس اللغة الإنجليزية في مدارس «هانوي» و»هو شي منه»، المدينة التي أطلق عليها تيمناً اسم الزعيم الفيتنامي التاريخي هو شي منه، الذي يعتبره جيل الأميركان الكبار رمزاً لهزيمتهم.

مصالح لا تحالف

إذن تطور العلاقة بين واشنطن وفيتنام يعكس في حقيقته قلقاً ومخاوف مشتركة بشأن السيادة والاستقلال، لكن ثمة أسباب أخرى ترغب واشنطن في الحصول عليها، بأن تفتح فيتنام الباب لها وعلى مصراعيه اقتصادياً، وأن تتوطد العلاقة معها عسكرياً بزيادة زيارات السفن الحربية الأميركية ووصولها للميناء الاستراتيجي في خليج «كام رانه»، فالمصالح المشتركة بينهما تكشف بأن الاقتصاد يحتل مساحةً كبيرة، وإن مستوى التجارة بينهما ارتفع منذ تطبيع العلاقة عام 1995 من 451 مليون دولار إلى 35 مليار دولار في 2014. وفيتنام تعد أكبر مصدرٍ لمنتوجات الأنسجة والإلكترونيات من جنوب شرق آسيا إلى الولايات المتحدة.

ويرى أحد الباحثين بأن العلاقات الأميركية-الفيتنامية هي في أعلى مستوياتها منذ سبعينيات القرن الماضي، حيث تساهم فيتنام في مشروع الشراكة عبر المحيط الهادي الذي تنجزه واشنطن، بيد أن هذا الأمر من وجهة نظر آخرين، لن يصل إلى عقد تحالفٍ بين البلدين؛ لأنهما غير مستعدين لذلك؛ لكن واشنطن تأمل أن يفقد خصومها في بكين توازنهم؛ بعد أن بدأت بعض الشركات الأميركية بنقل استثماراتها من الصين إلى فيتنام التي تتوافر فيها الأيدي العاملة الرخيصة.

إلى هنا وعلى رغم ضجيج زيارة أوباما لفيتنام التي دامت ثلاثة أيام، ثمة من يجد أن التجربة أثبتت أن مساعي واشنطن لا تتجاوز عن كونها خطوة شكلية، حتى تعود إلى سابق سياستها ومواقفها في انتقاد الدول ومطالبتها بإجراء إصلاحات جوهرية، وضمان حرية الصحافة، ومحاسبة المسئولين، والتلويح بملف حقوق الإنسان السيئ في فيتنام والذي يعد مدخلاً لها للتدخل في سيادة الدول وفرض رؤيتها، إضافةً إلى استغلال معاناة الشعوب، والنكوص بالعهود تجاه مطالبهم.

في كل الأحوال على حكام فيتنام الانتباه جيداً، والأخذ على محمل الجد تصريح تام آن، الطالبة في التجارة الدولية حين سُئلت عن زيارة أوباما لبلادها قالت: «لقد أثار إعجابي.. كنت مسرورةً جداً لرؤيته عن كثب. إنه حلم تحقق. إني أوافقه الرأي بشأن حقوق الانسان... يحق لي التعبير عن أفكاري وقول ما أفكر فيه»!

إذن عليهم الانتباه، خصوصاً أن عقبة التطبيع بينهما تتمحور بشأن انتقاد واشنطن لهانوي في مجال حقوق الإنسان؛ فالدول التي تحترم نفسها وتخاف على سيادتها، هي تلك التي تضمن العدالة وحرية التعبير لشعوبها.

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 5016 - الثلثاء 31 مايو 2016م الموافق 24 شعبان 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً