العدد 5019 - الجمعة 03 يونيو 2016م الموافق 27 شعبان 1437هـ

عصر العلماء «الصغار»

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

قبل ثماني سنوات، كنتُ أجلس مع مجموعة من الأصدقاء. أحدهم رمى بفكرة مهمة، وجدتها جديرة بالاهتمام فعلاً. ما هي الفكرة؟ جوهرها هو الدَّور الذي «يجب» أن يُمارسه الناس «العاديون» في الحركة العلمية والثقافية. أقول: العاديون وليس العلماء والمختصون. كيف؟ باختصار؛ أن يجعل كل فرد «عادي» ما يراه ويقرأه في متناول الجميع عبر تدوينه أو اختصاره أو إعادة قراءته ليوضع في المنتديات العامة، ووسائل التواصل الاجتماعي بدل أن يذهب ضحية «للذاكرة الخاصة» ثم يموت.

كانت نظرة هذا الصديق الحبيب عالقة في ذهني طيلة هذه السنوات. وفي كل مرة، كنتُ أهمّ بأن أبلورها في نصّ، أراني أرحِّلها لحين آخر. لكنني وقبل ثلاث سنوات، وجدتُ ما «يُكرِّر» تلك الفكرة «الخام» لذلك الصديق بشكل جميل وعلمي وأعمق وبمدى أبعد. فقد قرأت دراسة للدكتورة تريشا جورا من جامعة نورث وسترن الأميركية بولاية إلينوي تحدثَتْ فيها عن أهمية الناس العاديين من هواة ومتطوعين في رفد العلوم والأبحاث بطريقة مفيدة بل وفريدة.

ملخص ما قالته جورا هو أن هناك مَنْ تعتبرهم «متطوعين» يقومون وعبر هواتفهم النقالة بتصوير الأمكنة الجغرافية النائية وأخذ العينات وقياس الميكروبات، وكتابة ما يرونه ويعاينونه من أشياء ثم يُغرّدون عنه في «تويتر». هؤلاء ليسوا علماء، ولا يريدون أن يحلُّوا محل العلماء، إلاّ أنهم يستنفذون من ساعات يومهم عندما يمارسون حياتهم العادية في التجوال كي يقدموا ما يفيد العلماء، ويساهموا في جمع وتقديم البيانات. وقد تطوّر ذلك الأمر بأن بات المتخصصون يستعينون بهم.

ليس ذلك فحسب، بل إن عدداً من المشكلات البحثية المستعصية باتت محل معالجة عبر أولئك «الهواة» و»المتطوعين». في البداية كان هناك تحدٍّ حقيقي في مسألة «سلامة» تلك البيانات، إلاّ أن الأمر تطوَّر حتى أصبح «مسئولية فردية» على أولئك الناس، حيث باتوا يستشعرون بأنهم جزء من أبحاث في طريقها إلى تحقيق نتائج جيدة. نحن نتحدث عن ذلك ونعلم مدى كلفة البحث في الجامعات الغربية، التي تصل ميزانية بعضها إلى 3 مليارات دولار كـ جامعة هارفرد البريطانية.

لقد بدأ الأمر بمشروع يتيم تطور إلى 200 مشروع خلال عام واحد فقط! وعندما بلغ الحال مستويات إيجابية بدأت تظهر المؤسسات الراعية له. إحدى المؤسسات لحظة نشر جورا لدراستها كان لديها 450 مشروعاً بحثياً. وبات جمعٌ كبير من العلماء الكبار يؤمنون بتلك المشاريع ويشتركون فيها، سواء في علوم الفلك أو البيئة وغيرها، وخصوصاً أنها باتت تزيل حواجز الجغرافيا عبر القارات كلها لتبدو عالمية. وأصبحت هذه العالمية جزءا من تنوّع البيانات؛ نظراً لاختلاف ظروف كل أرض.

ضَرَبَت الدكتورة جورا مثالاً على ذلك. تقول: أراد أحد الاختصاصيين النفسيين في جامعة جون هوبكينز وهو جاستن هالبيردا أن يجري دراسة عن كيفية تطوّر الإدراك الذهني طبقاً لتقدّم عمر الإنسان. كان في البداية يرى صعوبة ذلك كونه سيحتاج إلى آلاف البيانات من بشر مختلفين في الأعمار كي يستطيع تحليلها. وهو أمر سيكلِّفه الكثير من المال مع ضعف ميزانيته البحثية.

لكنه فطن إلى فكرة «المتطوعين» أو «الهواة». فقد جاءه 13 ألف شخص تتراوح أعمارهم ما بين 11 و85 عاماً، وأبدوا استعدادهم للدخول في الاختبار. مُنِحَ أولئك اختبار قياس الحسّ العددي، وبدأوا يتعاملون معه طيلة أشهر. وفي النهاية اكتشف هالبيردا أنه لم يحصل على ما كان يريده فقط؛ بل حصل على ما هو أكثر من ذلك، وهي خلاصة لم يكن قد توصّل إليها أحد من قبل، تفيد بأن البشر لا يصِلون إلى ضبط الحاسّة العددية بشكل أفضل إلاّ ببلوغهم الثلاثين من العمر.

الحقيقة أن هذا النوع من الأفكار جدير بأن يُلتَفت إليه في دولنا ومجتمعاتنا العربية. فهو لا يساعد حركة البحث العلمي فقط، بل يدعم ثقافة الناس العامة ويُشعرهم بأنهم جزء من مسيرة العقل.

أتذكر أن أحد علماء المناخ وهو فيليب بروهان أراد تحليل سجلات الأنواء الخاصة بسفن أبحرت في القرن التاسع عشر. ولأن السجلات المتوافرة لديه يدوية وأرادها أن تكون رقمية، فقد استعان بـ «الهواة» و»المتطوعين» من «علماء العامة» كما يُسمّونهم. لنا أن نتخيّل أن 16 ألفا و400 شخص من أولئك الناس أبدوا استعدادهم للعمل معه، ثم أنجزوا له مليونا و600 ألف سجل عن التغيرات الجوية لتلك الفترة.

نعم، لقد أصبح الناس العاديون شركاء في التجربة والنتيجة. ليس ذلك فحسب، بل في جانب آخر من المشهد، يساعد مثل هذا الأسلوب على تهذيب استخدامات العصر، وبالتحديد التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي التي باتت مع الأسف وسيلة لإظهار الابتذال وطرح أشياء شخصية لا تزيد ولا تنقص، كتصوير قُدُور الطبخ والأكل والذهاب إلى المستشفيات وابتلاع الدواء.

نعم، قد يدفع هذا الأمر أولئك «الهواة» إلى الاندفاع نحو تطوير أنفسهم على المستوى التعليمي، وكذلك المهني، الذي سيتشكّل بفعل تجاربهم وتمرّسهم في الأبحاث. هذا الأمر قامت به جامعة كورنيل قبل سنوات عندما غَرْبَلَت 500 شخص من أولئك المتطوعين حيث وُضِعَت خبراتهم ضمن معايير الاختيار. وهي طريقة مُحفِّزة للآخرين. وقد تكون وسيلة لعوائد مالية حتى، فيصبح الأمر أشبه بدورة علمية وثقافية واقتصادية واجتماعية متكاملة، فضلاً عن المسئولية الاجتماعية.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5019 - الجمعة 03 يونيو 2016م الموافق 27 شعبان 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 7:04 ص

      حصص بدع GLOBE

      وهذا بالظبط ما يتعلمه الطلاب في حصص بدع GLOBE حيث يتعلم الطلاب مهارات البحث العلمي وتسجيل البيانات فطلاب مدرسة الشيخ عبدالعزيز الثانوية قامو برصد الطيور الخواضة لمدة اربع سنوات متتالية مع رصد درجات الحرارة والخواص الفيزيائية والكيميائية لمياه البحر

    • زائر 1 | 4:04 ص

      رائع كعادتك. وهاني ايضا

اقرأ ايضاً