العدد 5060 - الخميس 14 يوليو 2016م الموافق 09 شوال 1437هـ

سوسيولوجيا الفن: الشعر العربي نموذجاً (2 - 2)

يوسف مكي (كاتب بحريني) comments [at] alwasatnews.com

كاتب وباحث بحريني

يمكن القول إن الشعر العربي قد تشظى بتشظي المجتمع العربي سياسيّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً، ووصل هذا التشظي أوجه بسقوط بغداد في 1258، حيث سيتخذ الشعر منذ هذه اللحظة الفارقة طابعاً مناطقيّاً أو إقليميّاً، حسب الدويلات الموزعة على امتداد الرقعة العربية والإسلامية.

لكن هذا التشظي المناطقي/ الاجتماعي لا يلغي وجود تطورات في مسيرة الشعر في مناطق انفصلت عن دولة الخلافة كما حدث في الشعر الأندلسي مثلاً وهو شعر مثل خير تمثيل بيئة المجتمع الأندلسي، وما شهده من رقي ثقافي بعد الاختلاط والتزاوج بين العرب والبربر واللاتين، وظهور جيل من المولدين (المورسيكيين)، وأيضاً ما شهده المجتمع الأندلسي من رخاء عيش، ونعومة حياة، وقد انعكس ذلك في بروز نوع جديد من الشعر تجلى في الموشحات. ناهيك عن تأثر الشعر الأندلسي بالبيئة الطبيعية الجميلة في هذه البلاد وبالحياة الفكرية التي نهلت من ثقافة المشرق وزادت عليها في مختلف مدن الأندلس.

وهنا يحضرنا شعراء من أمثال لسان الدين بن الخطيب صاحب الموشحات المشهورة، وابن هانئ الأندلسي، وابن دراج، وابن زيدون، وابن حمديس الصقلي، وابن عبدون وابن خفاجة، وابن عباد، وابن قزمان، وابن حزم، وابن شهيد... الخ، وكلهم شعراء مبدعون ومجددون ومرتبطون ومتأثرون بسياقهم الاجتماعي، ومعبرون في الوقت نفسه عن هذا السياق ومشاركون فيه فعلاً وتفاعلاً وإبداعاً.

وعلى رغم تأثر الشعر الأندلسي بشعر المشرق إلا أن هذا الشعر استطاع أن يتطور بالارتباط ببيئته الاجتماعية المختلفة عن بيئة المجتمع المشرقي. وفي هذا المجال استطاع الشعر أن ينحو مناحي مختلفة عن شعر المشرق، من قبيل التوسع في الوصف بحيث شمل هذا الوصف كل شيء تقريباً من ظواهر المجتمع إلى ظواهر الطبيعة ومن التغني بجمال المرأة، إلى التغني بجمال الرياض والنوافير والتماثيل والمناظر الأخاذة. وكذلك تطوير الرثاء من الأشخاص إلى الأشياء والممالك والدول الزائلة. وأخيراً ازدهار الشعر المعروف بالقراءات، والعروض مثل ألفية بن مالك، وأرجوزتي ابن عبدربه في التاريخ والعروض.

ومن الخصائص الشعرية المرتبطة بالأوضاع الاجتماعية التي ميزت الشعر الأندلسي، بعده عن الفلسفة والصور الذهنية، وسهولة الألفاظ والتغني بالجمال في النساء وفي الطبيعة، والإيقاع الموسيقي الراقص يمتاز بحضور طاغٍ، كما أن هذا الشعر يمتاز بالرقة والرهافة والبعد عن التكلف، والعفوية المنسابة كالمياه المترقرقة.

ويبدو أن ما وصل إليه الشعر الأندلسي من تطور نسبي لم يمنع الشعر العربي عامة من التوقف عن التطور والركود. فهو قد توقف بسقوط بغداد في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي، حيث دخل الشعر العربي في المشرق في حالة من الركود استمر طيلة السيطرة العثمانية - نحو أربعة قرون - حتى بداية القرن العشرين، أما في الأندلس فقد مثل سقوط غرناطة في 1492 بداية النهاية للشعر العربي ليصاب بالموات بحيث لم تقم له قائمة بعد هذا السقوط المدوي. اللهم إلا كذكرى جميلة، غابت معالمها المادية والاجتماعية إلى الأبد ولن تعود.

أما في المشرق العربي فإن سقوط بغداد وضمور الثقافة عموماً وما أعقب ذلك من سيطرة الدولة العثمانية على المجتمع العربي على امتداد أربعة قرون كما أشرنا، وركود الحياة الاجتماعية والثقافية قد سددت كلها ضربة قاضية للشعر العربي. ليفيق العرب في نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بأنهم وشعرهم وثقافتهم ومجتمعهم قد أصبحوا في القاطرة الأخيرة من قطار التاريخ الحديث والمعاصر.

وهكذا يبدأ الشعر العربي بفعل التأخر التاريخي والصدمة الحضارية، يبدأ مرحلة انطلاق جديدة مرتبكة وملتبسة وغير واضحة الاتجاه، وواقعة بين وضعين اجتماعيين متناقضين ومتعاكسين. أوضاع المجتمع العربي الراكدة والتقليدية والرتيبة التي لا تحث على التجديد من جهة، والأوضاع العالمية وخاصة في ما وصلت إليه أوروبا من تقدم ليس في الجوانب المادية فحسب إنما في الشعر أيضاً والمصحوبة بإيقاع اجتماعي سريع من جهة أخرى.

وقد مثل ذلك صدمة للعرب عموماً وللشعراء خصوصاً، أظن أن الشعراء لم يفيقوا بعد من هذه الصدمة على رغم مرور أكثر من قرن على بداية الحداثة الشعرية العربية.

وأخيراً يبدو لنا أن العلاقة بين الشعر العربي الحديث والمجتمع العربي هي علاقة ضبابية وملتبسة كالتباس وضبابية المجتمع العربي، حيث يتعايش القديم والجديد في بنية واحدة ومتناقضة وبالغة الازدواجية، هذا فضلاً عن تعايش الأزمنة، وفي كثير من الأحيان يبدو الشعر في وادٍ وإيقاع، وأحداث المجتمع العربي في وادٍ آخر، وكأن الشعر يعيش غربة قاتلة عن مجتمعه، والمجتمع العربي يعيش في غربة عن الشعر. الأمر الذي يعكس طبيعة العلاقة المتوترة دائماً والمشوشة.

وكمثال على وضعية الشعر الملتبسة ما نشهده من فوضى المفاهيم والمصطلحات والتسميات المتعلقة بالشعر: فتارة هو عمودي وموزون ومقفى، وتارة هو شعر حر، وتارة شعر التفعيلة، وتارة هو قصيدة النثر، وتارة هو القصيدة الأكثر جدة، وتارة هو النثيرة، وتارة هو الشعر المنثور، وتارة القصيدة المقطعة وأخرى النص المفتوح ... الخ. وكل ذلك يعكس وضعية الشعر بالنسبة للمجتمع العربي، ومدى الاضطراب الحاصل في العلاقة.

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي (كاتب بحريني)"

العدد 5060 - الخميس 14 يوليو 2016م الموافق 09 شوال 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً