العدد 5065 - الثلثاء 19 يوليو 2016م الموافق 14 شوال 1437هـ

حوار الطرشان في بطرسبرغ

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

ها هي المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تتصدر فعاليات «حوار بطرسبرج للمناخ» الذي عقد أوائل الشهر الحالي ببرلين، هي حانقة وتجدد دعوتها إلى تطبيق سريع لما اتفق عليه دولياً نهاية العام الماضي في مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ بباريس، وعبر مناقشة حماية المناخ وتطبيق الأهداف الدولية للحد من ارتفاع الاحترار العالمي عن درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، وأن لا تتجاوز 1.5 درجة مئوية.

إلى جانبها شارك وزراء من «35» دولة، وقبلهم صادقت «19» دولة على «اتفاقية باريس» من إجمالي «197» دولة، لكن هذه الاتفاقية التي تعد خطة عمل عالمية للحد من آثار التغير المناخي لا يمكنها دخول حيز التنفيذ الفعلي إلا بعد مصادقة برلمانات «55 دولة» وهي الدول المسئولة أو المتسببة في نسبة انبعاث «55 في المئة» من الكربون الناتج عن الأنشطة البشرية.

من طنجة أيضاً طالبت قبل أيام وزيرة البيئة الفرنسية سيغولين رويال المجتمع الدولي ببذل المزيد من الجهود لمكافحة الاحترار العالمي قائلة: «إنها باتت تشكل قضية مستعجلة والمرحلة تتطلب التسريع بالمصادقة على الاتفاقيات المناخية ومنها اتفاقية باريس... وإن القطاعات الاقتصادية تتطلب التزام الدول والتنفيذ الكامل لمخططاتها الوطنية المتعلقة بالمناخ».

تهديد الأرض

سبق للمستشارة الألمانية التحذير من «العواقب الوخيمة» لارتفاع معدل حرارة الأرض إلى أربع درجات مئوية ما لم يتفق العالم على تعهدات أقوى لحماية المناخ، وذكرت «أن اللعب على عامل الوقت لن يفيد... وإذا ظل تبني التعهدات طواعية لخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري، فإنه لن يمكن الالتزام بهدف منع ارتفاع درجة حرارة الأرض لأكثر من درجتين مئويتين، الأمر الذي ينذر بارتفاعها إلى أربع درجات».

في هذا الصدد استشهدت بتقرير «سترين لاقتصاديات تغير المناخ» الشهير الصادر عن الاقتصادي البريطاني «سير نيكولاس ستيرن» العام 2006 والذي عمل قبلها في البنك الدولي وتشارك مع فريق عمل من 20 باحثاً زاروا الولايات المتحدة وكندا والمكسيك والأرجنتين والبرازيل وجنوب إفريقيا ودول شرق أوروبا وفرنسا وألمانيا وباكستان والهند والصين، وقابلوا اقتصاديين فيها ودرسوا تأثير تغيرات المناخ على الاقتصاد، وخلصوا إلى نتيجة مفادها «إن اتخاذ إجراءات تحد من تغير المناخ الآن سيكلف الاقتصاد العالمي (1 في المئة) من إجمالي الناتج القومي العالمي، لكن المشاكل والأخطار والخسائر الناتجة عن عدم اتخاذ أي إجراءات سيكلف العالم (10 في المئة)»، وأشاروا إلى أن «200 مليون شخص قد يتحولون إلى لاجئين بسبب الجفاف أو الفيضانات». في حقيقة الأمر الدراسات الحديثة تتوقع ارتفاع حرارة الأرض بمقدار سبع درجات وربما أكثر وليس كما تشير المستشارة إلى أربع درجات، فهل نصدق المستشارة أم غيرها؟ بالتأكيد نصدق الجميع ولكن؟!

عند مراجعة تاريخية سريعة لظاهرة «الاحتباس الحراري» وتأثيراتها، نجد أن التحذيرات طرقت الأبواب منذ ستينات القرن الماضي، ولاسيما مع الاهتمام بقضايا البيئة والتلوث ومع ظاهرة نفوق الأسماك العام 1968 في السواحل الاسكندنافية والنرويج والسويد والدنمارك، الذي اتضح للباحثين أن سببها يكمن في انبعاث غاز ثاني أكسيد الكبريت والنيتروجين من المصانع الإنجليزية والإلمانية، وهذا قاد إلى عقد «مؤتمر استوكهولم» الدولي العام 1972، كما زادت التحذيرات مع تنامي قضية «ثقب الأوزون» التي صدرت بشأنه الأبحاث وأشارت نتائج فرضياتها إلى الاستخدام غير الرشيد لمصادر الثروات الطبيعية، وغازات التكييف والتبريد وغيرها مما أحدث خللاً في «طبقة الأوزون» التي لها تأثيرات ضارة على صحة الإنسان بسبب وصول الأشعة فوق البنفسجية إلى الأرض وما تسببه من سرطانات الجلد، وخلل في جهاز المناعة وغيرها من الأمراض إلى جانب تدمير مقومات الحياة الطبيعية.

الاحترار والتوحش النيوليبرلي

مع تنامي العولمة والانفتاح والثورة التقانية والحروب المدمرة وتفاقم التلوث والتدهور البيئي، برزت «ظاهرة الاحتباس الحراري» التي استحوذت على اهتمام العالم بكثافة؛ وبرزت معها الجهود الدولية لتأطير اتفاق يتضمن خطوات فعالة تحد من انبعاث الغازات المتسببة في الظاهرة وتأثيراتها الخطرة، فجاءت «قمة الأرض» التي عقدت في ريودي جانيرو العام 1992 و «بروتوكول كيوتو» كعلامة فارقة لحماية المناخ الذي لم يدخل حيز التنفيذ إلا العام 2005 حين أعلنت بعض الدول الصناعية التي يمثل إنتاجها العالمي (10 في المئة) مسئوليتها عن خفض إنتاج الغازات المسببة للاحترار، بيد إنه ومنذ هذا «البروتوكول» الذي يعد الأداة الوحيدة الملزمة لخفض الانبعاثات الغازية والذي سينتهي العمل به نهاية 2016، يؤخذ عليه صيغته العمومية، وعدم التزام الدول الموقعة عليه باتخاذ التدابير العملية لتنفيذ البرامج ووضع سقف زمني لها وتحديد أكلافها ومن يتحملها.

إنه تعبير فاقع عن الإنانية واللامسئولية وغياب الإرادة السياسية، ولا أدل على مستوى الاستهتار سوى موقف الولايات المتحدة التي وقعت عليه، ثم انسحبت أثناء ولاية جورج بوش وإجهاض الكونغرس لأي اتفاق لخفض الغازات الحبيسة بحجج اقتصادية قيل إن وراءها ضغوط تمارسها الشركات الاحتكارية والمصالح الرأسمالية الكبرى الرافضة لفرض أي قيود بيئية على الصناعات، وكونها تكلف الولايات المتحدة نحو «330 مليار دولار سنوياً»، في الوقت الذي تُتهم فيه بإسرافها في استخدام الطاقة الأحفورية واستهلاكها ربع ما يستهلكه العالم ومسئوليتها عن «25 في المئة» من الغازات الحبيسة، كما يثار اللغط أيضاً بشأن استهلاك الهند والصين للطاقة، حيث يتوقع الخبراء أن تنتج هاتين الدولتان غازات مسببة «للاحتباس الحراري» أكثر مما تنتجه أميركا مع 2020، فالهند مسئولة عن «22 في المئة» من الغازات، والصين التي تسعى للنمو السريع باتت ترفع مستوى إنتاجها الصناعي واستهلاكها للطاقة بنسب عالية ومسئوليتها تقدر بـ»53 في المئة» من ارتفاع غازات الكربون، ولاسيما مع استخدامها الفحم الذي يفرز أضعافاً مضاعفة من الانبعاثات السامة مقارنة باحتراق البترول أو الغاز، والمخاطر تزداد مع تنامي حوار الغرب لاستخدام الفحم بطريقة تقلل من انبعاث الغازات، في ظل تذبذب أسعار البترول والخوف من نضوبه.

مواجهة التوحش

وعليه فظاهرة «الاحتباس الحراري» التي تعقد لها المؤتمرات بكثافة لها أبعاد سياسية واقتصادية، وتصرف دول المنظومة الاشتراكية السابقة إزاءها، لا يختلف عن الدول الرأسمالية النيوليرالية، من خلال التركيز على النمو الاقتصادي، والنهج النفعي والمادي وفلسفة مراكمة الأرباح السريعة والتوسع الاقتصادي كنمط حياة بغض النظر عن البيئة والمساواة وحتى عن الديمقراطية، إن الدول الرأسمالية غالباً ما تغلف حججها للاستمرار في هذا النهج من نافذة «دعم الدول النامية» وهذا ما حاولت ألمانيا الترويج له في «بطرسبرج» بمساعدة الدول النامية بتوسيع اعتمادها على الطاقة المتجددة، والتطوير المستدام للمدن وتطوير وسائل الزراعة بما يتناسب وتغير المناخ، في الوقت الذي يتهمها نشطاء حماية البيئة بالتراخي في تطبيق الأهداف الدولية لخفض الانبعاثات المسببة لظاهرة «الاحتباس الحراري». بالطبع ألمانيا ليست وحدها المتهمة بهذا التراخي، فالتقارير تشير إلى أن الدول الأعضاء في اتفاقية الأمم المتحدة بشأن تغيّر المناح التي عقدت حتى 2015 «20» مؤتمراً ولا تقدم في محاولات الوصول لنهج مناخي جديد يمنح الدول النامية الضمانات لتخفيف آثار انبعاثات الغازات، ظلت الجهود متعثرة أمام عقبات عدم التزام أغنياء العالم ومن السياسيين مباشرة كما نشهد في الولايات المتحدة وغيرها.

ختاماً، مواجهة التحديات البيئية غير المسبوقة في الاحترار العالمي وارتفاع منسوب مياه المحيطات والأعاصير المدمرة وانتشار الأمراض وغيرها، يتطلب مفاوضات سياسية والدخول في اتفاقات قانونية مُلزمة بشأن خفض الانبعاثات، بل والنظر في الأبعاد الاستراتيجية بتوسيع الاستثمارات في البحوث العلمية وتحسين قدرة التأقلم مع تغير المناخ بالابتكارات التكنولوجية. الأهم تطوير «اتفاقات كيوتو» جذرياً وتطبيق عقوبات رادعة لمن يرفض الالتزام بشروطها، فضلاً عن مواجهة اليد الخفية للسوق المعولم، وتغير نمط الحياة والعمل مع جماعات أنصار البيئة وخصوم النيوليبرالية المتوحشة، لعل وعسى أن يشكل ذلك موازين قوى جديدة تواجه هذا التوحش وتعيد صياغة علاقة الإنسان بالأرض والبيئة.

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 5065 - الثلثاء 19 يوليو 2016م الموافق 14 شوال 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً