العدد 5077 - الأحد 31 يوليو 2016م الموافق 26 شوال 1437هـ

أرض العبيد

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

بدأت بالصدفة في قراءة رواية فريدريك دوغلاس، «مذكرات عبد أميركي»، عشية انطلاق مؤتمر الحزب الديمقراطي، فظلت صورة زوجة الرئيس، ميشيل أوباما، وهي تخطب أمام مندوبي الحزب، تتراقص فوق الصفحات، حتى أنهيت الكتاب.

دوغلاس (1818 - 1895) كاتب وخطيب ومصلح اجتماعي، ومن دعاة إلغاء الرق، وقد عاش حياته الأولى مستَعبَداً، (وهي الكلمة الأصح بدل «عبد»)، وقد فرّق مالكوه بينه وبين أمّه وهو طفلٌ، وكان الملاك غالباً ما ينجبون من الرقيق أبناء لينتج جيل جديد من «العبيد»، كما حدث مع دوغلاس. وظلّ يتنقل من يدٍ لأخرى، لا يملك من أمره شيئاً، مثل ملايين الأرقاء البائسين. والكتاب وصفٌ لما لاقاه ومجتمعه الأسود، من عنفٍ واستغلالٍ وقمع شديد، وتعذيبٍ وجلدٍ يومي بالسياط. وهي حالة لا تنقطع طوال العام، عدا أسبوع واحد، خلال فترة عيد الميلاد، حيث يُسمح للزنوج بالراحة واللهو واللعب والمصارعة وشرب الويسكي بكثرة، كنوعٍ من التخدير ليعودوا بعدها للعمل الشاق من جديد ومواجهة أشكال التعذيب.

كان العنصريون يحرصون على تفكيك الروابط الإنسانية وإضعاف الروح لدى الزنوج، ومحو ثقافتهم وهويتهم الذاتية. ولك أن تتخيّل ما تؤدي إليه عمليات بيع الكبار أو الصغار، لملاّك جدد، من تمزيق العوائل وتفريق الأزواج، وحرمان الأطفال من أحضان أمهاتهم، لتنشأ أجيالٌ تفتقر لدفء العائلة ومشاعر الحنان. وكان يوكل بتربية الأطفال للعجائز اللائي لم يعدن قادرات على الخدمة في المنزل أو المزرعة. والأسوأ ما ينتظرهن من مصير، فجدّة دوغلاس، بعد موت مالكها، وتوزيع تركته على ورثته، أصبحت من أملاك ابنه الذي ربته طفلاً، فتخلّص منها بإبعادها إلى الغابة لتعيش وحيدةً، وتقضي ما تبقى من أيام شيخوختها في كوخٍ منعزل، حتى وافتها المنية بعيداً عن عشرات الأبناء والأحفاد الذين ربّتهم لعقود.

في عدة فصول، يروي دوغلاس ما كان يتعرّض له الزنوج من أشكال التعذيب والجَلْد بالسياط، حيث يتشقق الجِلدُ وتنزف الدماء، وتبقى الجروح الغائرة لأسابيع. كما يصف البيئة الزراعية التي عاشوا فيها، من مزارع كبيرة ومستنقعات، وانتشار أمراض وحشرات. وفي وسط هذا الظلم والظلام، كانت في حياة دوغلاس نقطتان مضيئتان، غيّرتا حياته إلى الأبد: التعلم والعمل.

بدأ في طفولته التعلم، بصورة عفويةً على يد سيدته البيضاء، وهو ما كان ممنوعاً على «العبيد»، وسرعان ما انتبه زوجها فثارت ثائرته وزجرها بعنف؛ لأنها «ستفتح عيونهم وستُفسد العبيد». كانت سياسةً منهجية للتجهيل، ليبقى هؤلاء تحت السيطرة، يشعرون دائماً بالإعاقة الفكرية والعقلية، مع الشعور الدائم بالدونية. موقف الزوج دفعه أكثر للإصرار على إكمال التعلم، حيث شعر بأن ذلك سيمثل له طوق نجاة سيأخذه يوماً نحو الحرية، وكتب مرةً: «إذا تعلّمتَ القراءةَ يوماً، فستكون حراً إلى الأبد». واستطاع أن يواصل تعلّمه من خلال التقرب للصبية البيض في الشارع، أثناء خروجه من المنزل لأداء أشغالٍ لسيدته، فكان ينهيها بسرعة ولكنه يتباطأ في العودة حتى يتعلم من الصبيان بعض الدروس.

طوق النجاة الآخر، كان تعلُّمُه مهنةً يتقنها، فبعد الأعمال الوضيعة أو الشاقة التي كان يُجبر عليها، مثل تنظيف الاسطبل وغسل الخيول وجلب الحطب من الغابة، أخذ يتعلّم النجارة والعمل بالسفن. وهي أعمالٌ سبقه إليها زنوج آخرون، لكنهم اصطدموا بالعمال البيض الذين تكتلوا ضدهم لمنافستهم على فرص العمل، وكانوا يعملون على طردهم من السوق. فوق ذلك، كان الزنجي صاحب الحرفة، يعمل لصالح سيده، فيسلمه حصيلة كدحه نهاية الأسبوع، فيمنّ عليه المالك بفتاتٍ قليلٍ جداً. وهو ما جعله يفكّر في الهرب من أسر العبودية، باللجوء إلى ولايات الشمال، التي كانت تعارض الرق، حيث استطاع أن يتزوّج ويكوّن عائلةً من الأحرار.

قبل الهرب، كان يحمل تصوراً بأن الشمال أكثر فقراً؛ لأن الثروة في الجنوب كان ينتجها «العبيد»، فهم رأس المال وقوة العمل الأساسية في الاقتصاد. لكنه سرعان ما اكتشف أن الشمال أكثر ازدهاراً وثراءً وتنظيماً وصناعةً، دون عبودية واسترقاق. وكانت الشوارع أكثر نظافة وترتيباً، ولم ير أطفالاً عراةً، ولا نساءً حفاة، والناس كانوا أكثر صحة وعافية وسعادة. إنها الحرية قبالة حكم الظلم والقهر والاستبداد.

هذه الولايات المتحدة المزدهرة اليوم، قامت دعائمها على جريمتين: إبادة الملايين من السكان الأصليين (الهنود الحمر)، واستعباد ملايين آخرين من قارةٍ أخرى، لتستخدمهم بنظام السخرة، بعد أن اختطفتهم سفن العار من قراهم الآمنة على الضفة الأخرى من المحيط، ليمثلوا مصدر الثروة في النظام الرأسمالي البشع الجشع الذي لا يشبع. تقف اليوم حفيدة إحدى تلك المسبيات تخطب في مندوبي الحزب الديمقراطي عن التغيير.

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 5077 - الأحد 31 يوليو 2016م الموافق 26 شوال 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 17 | 4:48 م

      مقال رائع يستحق القراءه.

    • زائر 14 | 9:40 ص

      مقال رائع ... فيه الكثير من الدروس والعبر

    • زائر 11 | 4:43 ص

      الحرية

      م أجمل الحرية وما أقبح الاسترقاق.

    • زائر 10 | 3:05 ص

      الرّق و السخره كانا جزء أساسي من النظام الاقتصادي قبل الثورة الصناعية فقط بتحول المجتمع الى مجتمع صناعي تنتشر قيم الحداثه و المساواه بين افراده اما في المجتمعات الدينية و المجتمعات الزراعية و المجتمعات القَبَليَّة فلا يمكن لقيم الحداثه ان تزدهر

    • زائر 9 | 2:53 ص

      درس بليغ
      في وسط هذا الظلم والظلام، كانت في حياة دوغلاس نقطتان مضيئتان، غيّرتا حياته إلى الأبد: التعلم والعمل.
      كانت سياسةً منهجية للتجهيل، ليبقى هؤلاء تحت السيطرة، يشعرون دائماً بالإعاقة الفكرية والعقلية، مع الشعور الدائم بالدونية. موقف الزوج دفعه أكثر للإصرار على إكمال التعلم.
      طوق النجاة الآخر، كان تعلُّمُه مهنةً يتقنها.
      هذه دروس مجانية تعلمنا الحياة

    • زائر 8 | 2:42 ص

      السادة بني هاشم انا داما اقول عنكم مبدعين وهذا الموضوع اليوم ياسيد اثبت كلامي الله لايحرمنا هذا القلم الحر

    • زائر 7 | 2:29 ص

      مقال رائع جدا جدا

    • زائر 6 | 1:57 ص

      هناك مستعبدون وهناك ناس عبيد ويحبون الاستعباد

    • زائر 5 | 11:57 م

      ماضى البشر يحدد مصداقيتهم وحبهم للاخرين. هل من ثقة بامريكا يترجاها انسان وهى اقيمت على جماجم السكان الاصليين والامريكان الافريقيين ولكن هدا لا يعنى انه لا يوجد امريكان دوي انسانية لان امريكا تتكون من اعراق واجناس اتوا من كل انحاء الكرة الارضية عدا طيبة وتراث وذكاء الشعب الاصلى الهنود الحمر (ياريت ما اخطاء كولمبوس) . ادا اردتم ان تعرفوا الاعداد الذين قتلوا من السكان الاصليين وهم بالملايين شاهدوا فيلم امريكى قديم (The Emerald Forest (1985 غابة امرلاد او غابة زمرد. الله المستعان

    • زائر 3 | 10:34 م

      مقال راااااااااااااااائع
      و اللبيب بالإشارة يفهم

    • زائر 1 | 10:14 م

      أجدت يا سيد والحرتكفيه الإشارة فالفطنة قراء أعمدتك يمتازون بها شكرا لك.

اقرأ ايضاً