العدد 5108 - الأربعاء 31 أغسطس 2016م الموافق 28 ذي القعدة 1437هـ

تاريخ/ مستقبل الأفكار... الصراعات والحروب

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

ما يُعرف بالتاريخ الثقافي (Intellectual History)، هو امتداد وتفرُّع مما عُرف بداية بـ «تاريخ الأفكار»، وهو أحد الفروع التي تشتغل على التغيُّر والثبات الذي مرَّ ويمرُّ بهما تاريخ الفكر البشري، بحثاً فيه، واشتغالاً على الآثار التي يُمكن أن يخلِّفها مثل ذلك التغيُّر أو الثبات.

البشر يُنتجون أفكارهم، لكنهم ليسوا حريصين بالضرورة على تمثُّل تلك الأفكار، وجعْلها ميزاناً في سلوكهم وتعاطيهم مع من حولهم. الأفكار التي لا تبْرح التنظيرَ والتقعيدَ، بمعزل عن حركة الحياة، تظل محْض تراكم، لكن وجودها من عدمها واحد. بمعنى آخر، الأفكار التي لا تُحدث فارقاً وقفزات في حياة الإنسان؛ قلَّت أو كثُرت قد تعمل على إرهاقه بدل العمل على إراحته ورفاهيته.

ثم إن الأفكار التي لا تخلق حراكاً بشرياً، تكشف عن «عقْمها»، بانتفاء «العمق» منها. والأفكار التي تكون محط شدٍّ وجذب وصراع لا يُخشى منها، ما دامت تستند إلى منظومة أخلاقية في الوقت نفسه، تضبط درجات ذلك الصراع أو الاختلاف كي لا يتحوَّل في نهاية المطاف إلى حروب، ولم يخْلُ التاريخ من الحروب التي أشعلتْها الأفكار، هذا إذا صحَّ أن نسمِّيها أفكاراً! تلك التي تُريد استئصال ما يتناقض مع توجُّهها ونُظمها، بعيداً عن المُحاججة؛ إذ لا إقناع من دون اتصال أو تواصل. من دون أداة، سواء كانت كتابة أو شفاهة أو من خلال الاثنتين: سمعية وبصرية، تعمل عملها في إحداث تأثير على سلوك أو اعتقاد أو اتجاه، أو قناعة ولذلك أدواته من طرق المحاججة والقدرة على التأثير. ولا تتحقق نتيجة من وراء ذلك ما لم يحشد طرف الإقناع أقيسة وبراهين تعزِّز النتيجة التي يبتغيها، بعيداً عن الابتزاز والاحتواء والمصادرة.

وبمناسبة الحديث عن حرب الأفكار، علينا ألَّا ننسى المُقاربة التي طرحها وزير الدفاع الأميركي الأسبق، دونالد رامسفيلد في العام 2004، حين أعلن عمَّا يسمى «حرب الأفكار»، في توجُّه بدا مكشوفاً يرمي إلى القيام بعملية محو مفاهيم وأفكار - لا نقول أنها نموذجية ومثالية، وغير قابلة للنقض والخروج عليها - يبدو أنها تأبَّدت لدى الشباب - تحديداً - في المنطقة العربية، بفعل أكثر من عامل، أولها المناهج وما يتبعها من منظومات تبدأ بالأسرة ولا تنتهي بالشارع؛ علاوة على أنها جاءت في فترة قُيِّض للولايات المتحدة أن تضمن موقعها المُهيمن على العالم؛ ما دفعها إلى فرْض وصفات - لا اقتراحها فقط - من موقع القوَّة وردِّ الفعل على ضرب تلك القوَّة في كبريائها في أعقاب أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001؛ حيث أصبح العالم غير العالم ما قبل ذلك التاريخ، وما أنتجته من حروب - لا حرباً واحدة - أفكار، تتبدَّى نتائجها وآثارها على العالم من دون استثناء، وفي الجانب المُعتم من محصِّلات تلك الأفكار.

وعوداً إلى تاريخ الأفكار الذي بدأت به هذه الكتابة، نقف على أطروحة عالم الاجتماع الفرنسي ميشيل فوكو، بإشارته إلى أنه: «يتتبَّع المُبادلات التي تتمُّ بين الميادين المعرفية، وهجرة الأفكار بين بعضها بعضاً، وذلك من خلال إبراز كيف تنتشر المعرفة العلمية، وتكون مناسبة لولادة مفاهيم فلسفية... وكيف تهجر المشكلات والمفاهيم والأفكار المحورية الحقل الفلسفي الذي تشكّلت فيه إلى خطابات علمية أو سياسية». ولذلك مبحث تفصيلي نتناوله في الأيام القليلة المقبلة.

ما يجعل هذا العالم حيوياً ومُتحولاً هو في قدرة الأفكار تلك على جعل هذا الكوكب صالحاً للحياة والتعايش والتقارب. في قدرته على استثمار وتوظيف الأفكار التي تؤكد الحضور الصميم للإنسان في هذا العالم، في الوقت الذي تتمكَّن فيه تلك الأفكار من القفز بمجتمعاتها إلى آفاق غير مطروقة، والقبض على ما يجعل تلك المجتمعات مُحصَّنة لا بفعل الانغلاق على أفكارها بقدر الانفتاح على الأفكار الأخرى، وإن بدتْ صادمة ومتقاطعة معها.

ليس من المبالغة في شيء القول، إن أول علامات موت الأمم: مجازرها على مستوى الأفكار. المجازر التي لا تترك لتلك الأفكار فُسحة من تعبير وطرح ومناقشة، وجدل مثمر، واستنطاق في فضاء رحب، لا تشعر فيه أطراف بالتهديد والاستهداف، ما دامت تملك أفكارها، ومستوية على حججها، ومتفاعلة مع ناتج تلك الأفكار، ولا تكرِّس حركتها لشطب المقابل لها من تلك الأفكار.

وكلَّما حُوربت الأفكار القادرة على الفعل والتغيير في أمة من الأمم، كلما كتبت تلك الأمة شهادة مراوحتها في مكانها، وشهادة تراجعها، وانفصالها عن اللحظة الراهنة... الزمن الراهن، ومن البديهي ألَّا تكون مؤهلة للانتساب إلى المستقبل بكل اشتراطاته التي لن تكون بمثابة نزهة.

الحديث اليوم عن مستقبل الأفكار لا تاريخها. ولا يمكن لتلك الأفكار أن يكون لها مستقبل مادامت منتجة للحروب، ولا نقول الصراعات؛ إذ لا ضير في مثل تلك الصراعات. المستقبل الذي يعزِّز من تراكمها، وليس ذلك وحده، يعزِّز من أثرها الفارق والمفصلي في الكثير من تفاصيل مستقبل الإنسان؛ وهو مستوٍ ومهيمن على حاضره.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 5108 - الأربعاء 31 أغسطس 2016م الموافق 28 ذي القعدة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً