العدد 5108 - الأربعاء 31 أغسطس 2016م الموافق 28 ذي القعدة 1437هـ

تزييف الوعي في الحرب السورية

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

يشير آرثر آيا بيرغر، مؤلف كتاب «وسائل الإعلام والمجتمع» إلى تعرض جهازنا الحسي في الخطاب الإعلامي لوابلٍ مستمرٍّ من الصُّور سريعة الحركة والمؤثرات التي تؤدي في نهاية المطاف إلى أنْ تصبح قدرتنا على اتخاذ قرارات ومواقف عقلانية إزاء أي شيء أمراً صعباً». لماذا؟

لأن سردِيَّات الخطاب الإعلامي مُتضاربة أحياناً وتنطلق من مصالح وأهداف غالباً مَّا تقدم صوراً مشوَّهة للعالم الذي تتمدَّد فيه جرائم القتل والانتهاكات الإنسانية وهدر الحقوق، فالأخبار التي تصلنا بحسب تود غيتلين مؤلف «وسائل إعلام بلا حدود»: «ليست مرآة تعكس العالم؛ إنها منتج صناعي ونسيج معرفي يعزز مجموعات من الأفكار والإيديولوجيات...، العالم بشكلٍ، ووسائل الإعلام تظهره بشكل آخر وفق ما يفسره المحررون وغيرهم ممن يتحكمون في الصور التي يُسمح لنا رؤيتها والكلمات المسموح لنا سماعها أو قراءتها».

من هنا تخلق بعض تحليلات المشهد السياسي وعياً مزيفاً، ولاسيما عند تشديد الإيحاء بالانتصارات الوهميَّة في إطار حروب الرعب الطائفية المجنونة التي دمَّرت مجتمعاتنا ومزقت نسيجها الاجتماعي وعاثت فيها تخريباً وذبحاً للناس وتشريدهم وبثت نوازع العنف والكراهية بينهم، تماماً كما تفعل الميديا اليوم بتنوعها وهي تنقل دون مبالاة ما يتداوله المحللون للتدخل التركي في سورية أو لقاء أباطرة العالم جون كيري، وسيرغي لافروف في اجتماعهما الأخير الذي انفضَّ بلا اتفاق على إنهاء الأزمة السورية.

تدخل أم احتلال؟

جاء التدخل التركي «درع الفرات» في جرابلس السورية بعد انقلاب تموز (يوليو) الفاشل في أنقرة. التدخل كان مقرراً منذ 2015 وتم تأجيله لأسباب عديدة. التدخل بحسب الأتراك يستهدف أمرين؛ تطهير المنطقة من داعش وهزيمتها، واستهداف المقاتلين الأكراد شمالي منبج، وعلى رغم إعلان رئيس «قوات التحالف الدولي» انسحاب وتراجع قوات الأكراد بأوامر أميركية استعداداً لتحرير الرقة من داعش، فإن وزير خارجية تركيا أكد «عدم انسحابهم، وأنهم يمارسون تطهيراً عرقيّاً بحق التركمان والعرب في المناطق التي سيطروا عليها ويقومون بتوطين الأكراد في منبج وجرابلس»، من طرفه يؤكد رئيس الوزراء أن التدخل لا يمس وحدة الأراضي السورية ولا أطماع لبلاده فيها، بل إن جرابلس ستكون تحت سيطرة السوريين، هل نصدقه أم نصدق الحكومة السورية التي تتهمهم بخرق سيادة أراضيها واحتلالها؟

حول التدخل تتباين الآراء والتحليلات حدَّ التناقض، لمَ لا، والمرحلة تمثل لحظة مفصلية في التاريخ السوري، هناك من يذهب بعيداً ويجد التدخل عملية مقايضة بل «صفقة» تمت مع السلطات السورية لتغيير أولويات الحرب تطبيقاً عمليّاً لتفاهمات سرية تركية - سورية تجرى وراء الكواليس منذ فترة ومدعومة إيرانيّاً وعراقيّاً وروسيّاً، كما تتضمن الحديث عن عودة حلب إلى السيادة السورية، مقابل إطلاق يد الأتراك ضد الأكراد في عملية «درع الفرات». الصفقة لها علاقة بإغلاق الحدود التركية - السورية في وجه المعارضة الإسلامية المتشددة والجماعات الإرهابية وقطع طرق إمددها؛ وقد يتطور الأمر بدخول الجيش السوري العربي لمدينة حلب؛ يستند هذا التحليل إلى مصادر تشير إلى زيارات ومفاوضات سرية عقدت بالجزائر وطهران وبغداد بين مسئوليين أمنيين كبار في البلدين لم تتوقف منذ أربعة أشهر، إضافة إلى زيارات يشير إليها الكاتب سامي كليب في مقالته تتم في دمشق تحت جنح الظلام طلباً للإفادة من خبرات دمشق في مكافحة الإرهاب، وتعزز كل تلك الآراء والتحليلات بالإشارة إلى تصريحات وزير الخارجية التركي بشأن «تقليص الخلافات مع الجيران إلى الحدود الدنيا ووصفه الحرب في سورية بالعبثية».

وثمة من يتساءل في «السفير» اللبنانية «عما إذا جاء التدخل التركي لإنهاء مشروع الفيدرالية أم لإعادة رسم الحدود؟ مشيراً إلى أن الأميركيين والأتراك في النهاية حصلوا كلٌّ من منظوره على ما يريد، فقد حقق الأتراك المنطقة العازلة التي طالبوا بها، والأميركيون لم يمانعوا على رغم تهربهم من تحمل التكلفة والمسئولية، أما تراجع الأكراد برأيه، فقد جاء لبدء صراع مؤجل مع الحكومة السورية ويهدف إلى فتح نقاش تفاوضي حول الفيدرالية، بل وعلى نقيض الرأي السابق وجد انسحاب أرتال داعش بما يشبه «التسلم والتسليم» في جرابلس ودون طلقة واحدة حيث مهدت الطريق تواطؤاً لعبور الدبابات التركية كي تحقق انتصاراً شكليّاً، عمليّاً تسللت القوات التركية بالتدريج لشمال حلب تنفيذاً للإرادة الأميركية التي تلاعبت بالجميع أكرادً وأتراكاً. في خلفية المشهد الدراماتيكي، هناك من حذر من التورط التركي في المستنقع السوري...»، أما واشنطن فقد أثارت اعتراضها مجدداً على الأداء العسكري التركي مما يثير التساؤلات بشأن موقفها وطبيعة علاقتها بالحليف التركي؟

لقاء كيري ولافروف

حدث آخر متصل بالمشهد السياسي وكيفية تعاطي الميديا معه، حيث تنشر الأخبار أن كيري ولافروف يجدان أنهما أنجزا الكثير، واتفقا على أنهما مختلفان بشأن التفاصيل الفنية التي هي بحاجة إلى متابعة الخبراء وانتظار تبلور المشهد الجديد بعد الاقتحام العسكري التركي للميدان السوري، فضلاً عن مراقبة نتائج استسلام داريا التي كانت محاصرة منذ 2012. بالمناسبة داريا أكبر مدن الغوطة الغربية قرب دمشق، حيث انتهت بالاتفاق على إخراج المسلحين منها وتسليم أسلحتهم ثم نقلهم إلى إدلب بإشراف أممي، كما أخليت من المدنيين الذين نقلوا إلى مناطق إيواء في صحنايا...»، هنا لا يحدثنا الإعلام عن سقف زمنى لتعاطي الخبراء مع التفاصيل الفنية، وكم الأرواح التي ستحصد؟ لا يناقش تأثير تفريغ المدن من أناسها وماهية مناطق أو مراكز الإيواء...الخ، تبدو الحكايات مبتورة ومجزأة وبعض التصريحات مبتذلة تشوش العقول.

وعلى رغم قول كيري إنه لا حل عسكريّاً للنزاع السوري، فهو متذبذب إزاء التنصل من جبهة النصرة، تارة بالتأكيد على إرهابها وعدم شمولها بوقف إطلاق النار، وتارة بالدعوة إلى عزلها قائلاً: «إن ذلك معقد وبحاجة إلى تعاون إقليمي»، كيري أيضاً مستاء من تسوية داريا ويرى أن الحكومة السورية فرضت عليها الاستسلام، لِمَ لا وداريا نقطة وصل للإمداد اللوجستي الآتي للغوطة الغربية من درعا أو القنيطرة، وهي تطل على مطار المزة ومحور غرب العاصمة، وكانت لها أهمية عند الفصائل المسلحة وشهدت بدايات التمرد كما شكلت أكثر المناطق المستعصية على الجيش السوري، لنتذكر ثانية كيري مستاء من التسوية، ولافروف يرد بأنها تمت بين الحكومة والمسلحين والتفاصيل بحاجة إلى متابعة خبراء الدولتين وتعاونهم قبل ترسيخ الهدنة الشاملة والانتقال للتفاوض السياسي.

في لقاء أباطرة الحرب ومشاوراتهم بحسب الأخبار، لم يتم أي اتفاق بيد أن الديبلوماسيين حرصا أمام الإعلام على إظهار اتفاقهما، لافروف أعلن ردّاً على التدخل التركي: «أي مقاتلة تحلق في سورية يجب أن يكون هدفها قصف داعش... وأن وجود أية قوة أجنبية يجب تنسيقه مع دمشق... هناك العديد ممن دخل العملية العسكرية في سورية دون موافقة حكومتها، ودمشق تبدي موقفاً معتدلاً وبراغماتيّاً، وهي مستعدة للعمل مع من يحارب الإرهاب... وكل من له قوات داخل سورية، يجب عليه تبني الأولويات في مواجهة النصرة وداعش»، وأضاف أن «العامل الكردي وعوامل أخرى دفعت للوجود التركي في سورية، كما نرى ضرورة مشاركة الأكراد في العملية السياسية بالكامل وليكونوا جزءاً من الحل وليس عامل تقسيم».

الخلاصة ثمة تشويش إزاء التوقعات المتضاربة التي في حقيقتها جزء لا يتجزأ من التلاعب بالرأي العام وما يولده من بلادة حسية سببها فرط التحليلات وفرضياتها ولاسيما مع تنامي وتيرة العنف في المشهد السياسي. لقد وصل الأمر عند حدود الرغبة في وضع حد نهائي لجنون الحرب وحقن دماء الأبرياء؛ الكل مهزوم وساقط بسبب التدخلات الإقليمية والدولية، وما يحدث تسريع لوتيرة الحرب ومخاطرها التي تصب باتجاه الخيارات المتبقية وخصوصاً مع مشارف الانتخابات الأميركية، فإما التسوية في إطار تجزئة المنطقة وتفتيتها لكيانات طائفية وأثنية فاقدة للسيادة أو استمرار الاحتراب والأزمات في الأرض المحروقة، وكلا الخيارين مر كالعلقم.

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 5108 - الأربعاء 31 أغسطس 2016م الموافق 28 ذي القعدة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً