العدد 5110 - الجمعة 02 سبتمبر 2016م الموافق 30 ذي القعدة 1437هـ

بين السياسة والتاريخ

يوسف مكي comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

ترى بعض النظريات أن الإنسان وليد الظروف والتربية، وبالتالي فإنه يتغير بتغير الأوضاع وتجديد التربية، لكن مثل هذه الرؤية تتجاهل أن الفكر قوة تاريخية، وأن الإنسان هو الذي يغير الأوضاع.

منذ بدء الاجتماع الإنساني باتت الحاجة ماسة إلى مؤسسات ناظمة للعلاقات بين البشر، ولم تكن كتابة التاريخ منذ بدأها المؤرخ الإغريقي هيرودوت، سوى رصد وتدوين للنشاطات الإنسانية، وللعلاقة بين الحكام والمحكومين، وأيضاً العلاقات بين الدول. ومن هنا كان التلاحم وثيقاً بين السياسي والتاريخ، وبين علمي السياسة والتاريخ.

وتشير التجربة التاريخية إلى أنه حين يقع خلل في السياسة فيما يتعلق بالالتزام بالموقف التاريخي، فإنَّ النتائج تكون كارثية. هذه القراءة معنية برصد التجربة التاريخية العربية المعاصرة في مسارها السياسي، والتي تشي بأن ثمة خللاً في مسارها، منذ بدأت الأمة مشروعها للتحرر من نير الاحتلال الغربي بعد الهزيمة الأولى للمشروع النهضوي العربي، والتي أخذت مكانها كأحد إفرازات الحرب الكونية الأولى.

قراءة الواقع العربي في السياقين التاريخي والسياسي، تعيد الحضور بشكل قوي إلى مقولة الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين، في وصفه للإنسان بأنه حيوان بتاريخ. بمعنى أن الإنسان من دون سائر الكائنات الحية هو وحده الذي يملك تاريخاً. إنه يتعلم من أخطائه وتجاربه. وهو بخلاف الحيوان الذي تتصف حياته بآلية وتكرار لا يحيد عنهما.

لقد تعلم الإنسان منذ القدم اصطياد الحيوانات بالطريقة ذاتها. والفأر يجرى اصطياده منذ القدم، بوضع قطعة من الجبن في مصيدة. وعلى رغم أن الطريقة مضت عليها آلاف السنين، لكنها لاتزال صالحة. والسبب في ذلك أن الحيوانات - بخلاف الإنسان - كائنات من غير تاريخ، كونها لا تعي ولا تتعلم من تجاربها السابقة.

والتجارب في المحصلة مجموعة من العبر، تساعد الإنسان على تجنب الوقوع في مزالق الأخطاء. ولأنها كذلك، ربط قدماء الإغريق التاريخ بمدرسة الأخلاق. فوسيلتنا إلى التعلم، في كثير من الأحيان، هي مضاهاة الحاضر بالماضي. وقد قبلت بعض المدارس الفقهية القياس كسبيل لمعرفة الحلال من الحرام، مع أن ذلك يصطدم بحقيقة عدم قابلية التجارب الإنسانية للتكرار، وإلا لكنا سلمنا بمقولة إن التاريخ يعيد نفسه. ولو افترضنا صدق هذه المقولة، فإن ذلك يعني ميكانيكية الأحداث، وذلك طرح أقل ما يوصف به أنه غير تاريخي؛ كونه ينفي حضور التاريخ من الأساس.

فلو سادت النظرة الساكنة للكون، وانعدمت الحركة، لما كانت هناك حاجة إلى أن يقوم أجدادنا بالتدوين، وكتابة أيام العرب. الكون قانونه الحركة الدؤوبة السائرة بوتائر مختلفة إلى الأمام، متخذة أشكالا لولبية. والإنسان كما تقول المقولة الإغريقية لا يستطيع العوم في نفس مياه النهر مرتين.

وترى بعض النظريات أن التاريخ هو من صنع الإنسان، وأن الإنسان وليد الظروف والتربية، وبالتالي فإنه يتغير بتغير الأوضاع وتجديد التربية، لكن مثل هذه الرؤية تتجاهل أن الفكر قوة تاريخية، وأن الإنسان هو الذي يغير الأوضاع. وأن المربي نفسه يحتاج إلى تربية وتجدد مستمرين.

هذه المقدمة تفصح في جانب منها عن طبيعة الأزمة السياسية العربية، وعن معضلة الازدواجية التي حملها مشروع النهضة العربي. تداخل بين التقليد والمعاصرة. وتوق نحو التقدم باستخدام مفاهيم الماضي.

لقد انقسم الفكر العربي المعاصر، الفكر الذي ارتبط بحركة اليقظة العربية التي انطلقت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إلى عدد من الخطوط. خط أراح واستراح، واتخذ موقفا عدائيا وصريحا من الحداثة، ورأى أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان، وأن طريق العرب للنهوض هو العودة إلى الموروث القديم الذي صنع أمجادهم. وانقسم هذا الخط بين من يدعو بصريح العبارة إلى عودة الخلافة الإسلامية، وبين من رأى استحالة ذلك، وطالب بإقامة دول إسلامية، على قياس دولة الإسلام، التي سادت في ظل أنظمة الخلافة، في عهد الخلافة الراشدة، والعصرين الأموي والعباسي. وهذا الخط منسجم في ممارسته وطريقة تفكيره، وإن كان عاجزا عن أن يكون ترساً في مسيرة النماء والبناء والتقدم البشري.

خط آخر شبه تقليدي، طالب بتلاقح بين الأصالة والمعاصرة. فقال بحتمية التماهي مع روح العصر، ولكن باستلهام الموروث الحضاري للأمة، بما في ذلك الموروث الأخلاقي والديني.

خط ثالث طالب بالبتر التام مع الماضي، والتماهي مع العصر في الفكر والنموذج، ولم يكن لهذا الخط نصيب قوي من الحضور الاجتماعي والسياسي في الواقع العربي.

انطلق الخط الأول، وتشير القراءة الموضوعية إلى أن الخطوط الثلاثة لم تلتزم بالمنهج التاريخي. فالخط الأول، انطلق من نظرة عدمية ساكنة، بمعنى أنها غير تاريخية. ويمثل الإسلام السياسي هذا الخط. وقد تكرر حضوره في الواقع العربي، وكان هذا الحضور ردة وتعبيراً عن وجود أزمة سياسية في الواقع العربي.

تأسس الإسلام السياسي في نهاية العشرينات من القرن المنصرم، كردة فعل غاضبة على نتائج الحرب العالمية الأولى. كان موقفه مرتبكاً وقلقاً من سقوط السلطنة العثمانية التي وصفها بعض قادة الحركة الإسلامية ببيضة الإسلام. وكانت نتائج الحرب الكونية الأولى بالنسبة إلى العرب كارثية ومروعة، وضعت اتفاقية سايكس بيكو قيد التنفيذ، وهيأت المناخ لتنفيذ وعد بلفور، واغتصاب الصهاينة فلسطين، وهزيمة المشروع النهضوي العربي. أما محطته الثانية فكانت نكسة (5 يونيو/ حزيران 1967)، وارتبطت بما عرف في حينه، بالصحوة الإسلامية. وكان من أبرز ملامحها تفجير الحافلات والقطارات في أرض الكنانة، واغتيال لبعض المسئولين والكتاب الحداثيين في الدولة المصرية، وبلغت أوجها باغتيال الرئيس السادات.

أما المرحلة الأخيرة، فهي ما نشهده الآن من تغول لظاهرة الإرهاب، وبرز ذلك بشكل دراماتيكي ومكثف بعد انقضاء العصر الذهبي القصير لدولة الإخوان في مصر وتونس، والعجز عن القفز إلى السلطة في سورية، والأحداث المروعة في ليبيا، والتي صادرت بجدارة هذا الكيان.

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "

العدد 5110 - الجمعة 02 سبتمبر 2016م الموافق 30 ذي القعدة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً