العدد 5129 - الأربعاء 21 سبتمبر 2016م الموافق 19 ذي الحجة 1437هـ

العالم يَسَع الجميع... البعض يجعله ضيِّقاً

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

العالم لا يضيق بأحد. يسَعُنا ويسَع مليارات غيرنا. ما يجعله ضيِّقاً هو ضِيق بشر بنظرائهم في الخلق. أن يروا أحقِّيَّتهم في الوجود دون سواهم. أن يروا أنفسهم مركَز العالم، والآخرين دون الهامش. هم لا يروْنهم أساساً كي يكونوا هامشاً. لذلك قيل: «الأرض الضيِّقة تسَع بأهلها»، لا الذين يحتقرون ويستهدفون ويتآمرون ويُحرِّضون وينتهزون الفرصَ كي يُوقعوا بأندادهم؛ أو هكذا يروْنهم. يخترعون أعداء لهم كي يكونوا مُنشغلين بمواجهاتٍ لن ينتصر فيها أحد في نهاية المطاف.

ثم إنك لن تشعر بقيمة الحياة حين تكون مزدحمةً بالأعداء، ولن ترى العالم رحْباً واسعاً حين تكون محاصراً بالأعداء الحقيقيين والأعداء المصطَنَعين، الذين يتبرَّعون للقيام بتلك الأدوار! هنالك في الحياة... في العالم من لا يجيد سوى القيام بمثل تلك الأدوار. تلك هي موهبته فحسب.

يُمكن للعالَم أن يكون مداراً للحياة، ويُمكن للحياة أن تكون مداراً للعالم. كلٌّ بحسب نظرته وتعاطيه مع كل منهما. حياة كل منا عالم. وعالم كل منا حياة بمعنى من المعاني. وبنظرة تحتاج إلى أن تُخرج الحياة تلك من نطاقها الضيِّق والمحدود إلى مدى أرحب وأوسع وأشمل. ويُمكن للحياة والعالم أن يتحوَّلا إلى سجن عملاق. سجن يمكن لأي منا أن يكون فيه السجين والسجَّان في الوقت نفسه. لا سجن أكثر ضِيقاً وشقاء من السجن الذي ترهن نفسك له، وتكون تحت رحمته، عن وعي حدث ذلك أم من دون وعي.

وليس من المُبالغة في شيء، أن كثيرين مُقتنعون أن حياة بعض البشر من حولهم قد تُنقص من أعمارهم. لدينا هذه النوعيات من البشر، ولن يهدأ لهم بال ما لم يتوارَ من يرونهم غرماء عن أعينهم، أو تطولهم يد المنون.

بعض من في هذا العالم لا يريد أن يقتنع أن بشراً من حوله يشعرون ويندمون، ويضحكون ويبكون، ويتألمون ويحنّون. وحدهم بالمواصفات تلك، فلا غرابة أن يرُوج سلوك الغلظة والصفاقة والعدوان في صوره المختلفة. ومنهم من يقرِّر الموت المعنوي لبشر من حوله إن لم يستطع تقرير موتهم المادي. وحين تطغى شهوة الإقصاء والإبعاد والتهميش على فطرة الاستئناس والاندماج والضمير والتمسك باليسير من القيَم، لا يعود العالم مهْما كان محدوداً أو مُطلقاً، عالماً، ولن تصبح الحياة مهما امتدَّت، حياة.

نستأنس ببعض الحكايات والقصص في التاريخ، تلك التي تقرِّب لنا بعض الممارسات والسلوك الخارج على الفطرة البشرية. تلك التي لا تحمل أي دلالة على إنسانية الإنسان؛ فيما تحمل دلالات العبث بالحياة والعالم، وإن بدتْ مثل تلك الحكايات والقصص ضرباً من الخيال، وصورةً من صور طغيان المخيَّلة الشعبية وجنوحها، ولكنها تُعبِّر في جانب من جوانبها عن حقيقة المأزق الذي عاشه - ويعيشه - العالم في جزء من أجزائه، وتضرَّرت - ومازالت - منه الحياة، وإن كانت ضمن حدود وحالات الفردية، وفي صور شتَّى؛ إلا أنها تُعطي صورةً عن طبيعة التوحُّش والإذعان في الوقت نفسه، ذلك الذي يطبع بعض النفوس.

نستدعي في هذا الصدد حكاية قاضي بلْخ، التي تضعنا أمام رجل دفعته الظروف إلى الغياب عن بلدته؛ ما دفع قاضي البلدة إلى الحكم بموته، لتمرَّ الأيام وإذا بالرجل يظهر، ليقوم الرجال التابعون إلى القاضي، وهم الحرس، بالقبض عليه، وإلقائه في التابوت عنوة، ليكملوا إجراءاتهم سيراً به إلى حيث سيدفن. الرجل لم تكن لديه وسيلةٌ لإثبات أنه حي سوى الصراخ، متسائلاً في هلع واستنكار: إلى أين تذهبون بي؟ ليردَّ الرجال التابعون للقاضي: إنك مخطئ. لقد قرَّر القاضي أنك قد مُتّ، فأنت ميّت ويجب دفنك! عالمٌ مثل ذاك، لا يعود عالماً أيضاً بالذهنية التي تُميت وتحيي ولو بالمعنى المعنوي. حياة مثل تلك ينقصها الكثير كي تُثبت أنها حياة.

بتأمُّل بسيط، وانفتاح على الحياة من حولنا، ببشرها وحتى أشيائها، سنعرف أن العالم يسَع الجميع، لكن البعض يجعل ذلك العالم - صغُر أم كبُر - ضيِّقاً، وأحياناً يجعله أضيَق ولا تطمئن نفسه ما لم يستأثر به. بدءاً من عالمه وحدوده الخاصة، وانتهاء إلى ما يستطيع أن يضع يده عليه؛ لتصبح الحياة عندها هي الأخرى على النقيض من الحياة التي نعرف.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 5129 - الأربعاء 21 سبتمبر 2016م الموافق 19 ذي الحجة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 2:54 ص

      مقال رائع أستاذ جعفر

    • زائر 2 | 12:45 ص

      الحسد والطمع والجشع وعدم الايمان الحقيقي بالله تجعل من البشر يتصارعون في حين انّ من خلق الأرض خلقها للجميع (والأرض وضعها للأنام) والرزق تكفّل به للجميع .
      المشكلة فينا نحن كمسلمين لدينا دينا قيّما يحثّنا على التحلّي بالأخلاق النبيلة لكننا نسير عكس ما امرنا به ديننا

اقرأ ايضاً